لنتسامح ونتوب من أجل المستقبل

> محمد علي محسن:

> أعترف لكم في البدء أن كلمات السفير محمد عبدالرحمن العبادي كان وطؤها ثقيلا ومؤلما على واحد من جيل الثورة والاستقلال، ولا علاقة له بما حدث للرؤساء قحطان وسالمين وعبدالفتاح، وحتى علي ناصر الذي قدرنا الالتحاق بالعسكرية في الثلاثة الأشهر الأخيرة من حكمه السابقة للإطاحة به في يناير 86م.. جميل أن تمتلك الشجاعة الأدبية والأخلاقية لتعتذر من شعبك وتطلب منه الصفح والعفو، قد يكون الاعتراف المتأخر فتحا لكلوم قديمة برأت أو شارفت على الالتئام، لكنه يبقى علاجا شافيا وبلسما لجروح لا تفتح أبدا.

وأنا أقرأ اعتذارات السفير تملكتني روح الدهشة والرهبة معا، أما الدهشة فكانت من جرأة صاحبها على الاعتراف بالذنب الشخصي، وفي كل التواريخ المهمة، وأما الرهبة، فمن ندمه على تهريب عبدالفتاح إسماعيل وعلي سالم البيض من سجن مدينة الشعب يوم 22 مارس 1968م.

نعم قد يكون الاعتذار هنا عن الرئيس قحطان الذي بحبسه وبمقتل صهره فيصل عبداللطيف فقدت الدولة الجديدة بوصلة الوسطية والاعتدال، لكن ورغم هول ماحدث لا يتوجب الندم على فعل إنساني مثلما رأينا في اعتذار العبادي فيما يتعلق بتهريب فتاح والبيض، كما أن عض الأصابع على محمد علي هيثم لايتوقف على قانون الجوازات والجنسية، بل يستلزم تقدير ما خسره البلد بنفي الشخص وليس بماهية الفائدة المرجوة من القانون في ذاك الزمن من منظور الحاضر. عدا هاتين الملاحظتين كانت اعتذارات السفير لواحد مثلي أعظم من كل الكتابات الصحافية، فلكم أيقظتني وأدهشتني وأرهبتني تلك الحروف النابعة من وتين القلب! خُيل لي صاحبها أشبه بمؤمن أخلص توبته لله الواحد القهار، واعترافاته وبوحه لنا كأنما أراد بها التطهر مما يثقله ويؤنبه في الوقت الحاضر جراء حقبة مؤلمة وموجعة عاشها كل أبناء الجنوب مشخصا بفعله الجميل حاجتنا جميعا للصفح الجميل.

لست واعظا أو أبا يمنح صكوك التوبة والغفران للعائدين والتائبين إلى الله أو إلى ذواتهم وشعوبهم، لكنني وبقدر ما أحترم وأقدر الرجال الشجعان الأقوياء أمثال السفير المنفي في الولايات المتحدة أو غيره من القيادات السياسية والعسكرية والمدنية في الداخل والخارج أعتب عليهم أيضا نسيان أو قولوا إهمال المستقبل الذي ننشده ونتطلع إليه من أجل العملية القائمة للتصالح والتسامح في هذه المحافظات المنتفضة اليوم على ماضيها بكل ما يعني لها من أحداث وأخطاء ومآس تستوجب السمو فوقها، هؤلاء وهم في غمرة اصطفافهم النضالي الوطني والوحدوي والديمقراطي والإنساني أحوج ما يكونون في مثل هذه الظروف الاستثنائية والحرجة للتنظيم والرؤية والخطاب العقلاني التسامحي غير المستفز أو العدائي أو الإقصائي أو الغارق في أتون الماضي الذي يشكو منه فرقاء الأمس، وواحد منهم السفير العبادي، باعتذار لشعب الجنوب بكل فئاته وأطيافه السياسية وقادته ونواحيه مستثنيا من ذلك حدثين ورئيسين للجنوب، أما الحدثان فتمثلا بتهريب البيض وفتاح وبمعارضة قانون الجوازات والجنسية، وأما السبب والدافع لهذا الاستثناء فيطرح أكثر من علامة تساؤل كما سيفتح أبواب السماء مشرعة للتوبة والندم ثانية وثالثة.

ما أروع أن نتصالح ونتسامح من أجل المستقبل، لا كما يفهم البعض بإعادة عجلة التاريخ للوراء أو بفتح أو خلق نعرات وثارات وكلوم جديدة، فمهما كان قبح الواقع المعاش وسوءاته على المصطلحين في الجنوب، ومهما كانت درجة المعاناة أو المقاومة للظلم والإقصاء والقتل هنالك يبقى متسع للعلاقة الإنسانية في أن تسود وتسمو، وفي كل الأحوال الاعتراف بالخطأ فضيلة والتوبة يجب أن تكون للمستقبل وليس للماضي وفق قول أناتول فرانس، وعلى هذا الأساس يمكن القول إن إزالة آثار الصراعات الماضية ينبغي تجسيدها كقيمة عظيمة، وفعل إنساني يستدعي الإيمان والإخلاص له من الجميع، طالما وقلنا بطي الماضي لأجل المستقبل، بهذا المعنى تستقيم التوبة فقط ودون أية استثناءات أو مقاصد من التوبة غير الإقلاع عن الذنب والندم على ما فات والتكفير عنه بعدم العودة لفعله في الحاضر والمستقبل، ونحو الجميع، فلا يكفي أن يعتذر المرء أو يعلن عفوه وتسامحه مع ماضيه وفي ذاته وأفعاله يؤسس للكراهية والفرقة، فالتصالح والتسامح بين أبناء محافظات الجنوب لا يعني بحال من الأحوال الإساءة لإبناء محافظات الشمال، مهما كانت شدة العسف أو الغبن من السلطة والواقع الوحدوي، فإذا قوبلت الإساءة بالإساءة فمتى تنتهي الإساءة؟! وفق تعبير المهاتما غاندي.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى