براميل كرش

> عبدالقوي الأشول:

> رغم أنها لم تكن فواصل جدران أسمنتية ولا أسلاك شائكة، إلا أن براميل كرش الصدئة عند مدخل ذلك الفاصل الحدودي المحاذي لعدن كانت أقدر على بعث الرهبة في النفس، في حين كان اختراقها يمثل مغامرة تنطوي على قدر من المجازفة، وربما الإقدام.

ومثل غيري ممن خاضوا تلك التجربة في سنوات مبكرة من أعمارهم، تركتْ التجربة في تلافيف الذاكرة انطباعات لا تمحى عن عالم ما وراء البراميل، من مشاهد مدن مكتظة مفتقرة للخدمات، بشوارع ذات ندب وأخاديد عميقة، وسيارات تعود إلى خمسينيات وأربعينيات القرن العشرين، أسواق قات غاصة بزبائنها باكراً، وملامح أرياف بائسة، وحالات خصومة، ونزاعات ثأرية لا تنتهي حتى في تلك اللوكندات المسائية المعدة بعد كل ظهيرة لاستقبال روادها من ماضغي القات وموالعة الشيشة.

شوراع وممرات خلفية مظلمة، ومدن تستقبل ضوء نهاراتها بفواصل تروي مسرحية انقلاب جديد، وهيبة رئيس جديد لم تدم صورته في الأذهان إلا منتهية بمأساة رحيله، ربما لم تكن موضعاً للوصف الجمالي إلا في جانب صورة الأفق المنذرة بالمطر عند كل مساء، وبرودة الطقس، وبعض فواكه نضرة في معروضات الباعة المتجولين (أعني بذلك في الجهة الشمالية للبرميل) .

وربما لأن الجانب الأكبر من تلك المجازفة التي خضتها تمثلت في ليلة القبض الأمني الذي انتهى بي وزميلي إلى سجن تحت مبنى أرضي بمحافظة إب يدعى دار السلام .. رغم أن التسمية لا تمت إلى بشاعة ووحشية المكان وبراغيث القمل البشري والحيواني التي تنهش جسدك، ما يجعل أمر الخروج من هذه الدار الموحشة إما إلى دنيا الفناء أو إلى شارع الهذيان والجنون.. كما هي تجارب من كان حظهم أغلال سجن دار السلام طويلة الأمد في أواخر سبعينيات القرن العشرين .

ولست أدري حتى اللحظة أي بارقة أمل وحظ ارتسمت في أفق حياتي وذلك الزميل، إذ لم تدم إقامتنا في تلك الدار إلا يومين لا أكثر .. رغم تكرار التجربة بالنسبة لي في جهة البرميل الجنوبية بصورة أكثر قسوة وألماً .

رحلة عدنا إثرها مكسوري الخاطر آفلي الطموح، وهنا في واجهة الجنوب عايشنا كل ما في ساحتها من فرط الشعارات التي لا تنتهي وصكوك الوطنية التي توزع..وكل تلك الشكوك التي تحوم حولك بفرط إحساس المخبرين، وربما غباوتهم وبلادتهم وغطرستهم. هنا عند أطراف المدينة تستقبلك مجسات الأمنيين الكثر، وترمقك نظراتهم كما لو أنك من رجالات المافيا العالميين .

وهنا عند زوايا مدينة ساحلية، بشوارع مقفرة ووجوه كالحة بائسة، وأسواق لا تعرض إلا ما هو متاح من ملبوسات وفواكه قلما يكون لها حضور في تلك المدن التي تبدو هيئتها حطاماً يدعو للرثاء والشفقة، أحياء كانت شاهدة على فعل الرفاق بنا (أعني العامة) .. وبأنفسهم في تراجيديا صراع لم ينته على السلطة أفضى في نهايته إلى كل هذه المحصلة البائسة.

وسط هذا التيه وذاك، ربما لم يكن يخطر ببال الجيليين سواء من الجهة الشمالية أو الجنوبية للبراميل أن واقعاً مغايراً سيأتي، كانت بدايته لمّ جمع المنحوس على خائب الرجاء بوحدة فورية اندماجية.. لم تأخذ في لحظتها العاطفية بأي من مسلمات العقل والمنطق التي تضمن لها عدم مواجهة شدة المتاعب.. وحدة تبدو حاجتها اليوم لصورة مدن أخرى زاهية تعتمل صورة الحياة العصرية على جوانبها، مدن متخلصة من عذابات الأمس وحالة الفقر المدقع، لا تحتاج إلى أسواق السلاح ومجالس الأعراف التي تقضي بين المتخاصمين والفرقاء .. مدن لا يرتاد مواطنوها باكراً أسواق القات، أعني مدن متخلصة من فرط الإحساس الأمني والريبة حتى من الذات.

إلا أن كل هذا للأسف لم يحدث، أما وقد بلغ ذلك الجيل من العمر عتيا، فلم أعد أجد في صورة الأحلام الوردية التي كانت ما يستدعي الإيقاظ، ربما لأن حالة الخلط القائمة تبدو أمضى وأشد إنكاء على النفس من تلك الحال التي كانت على جانبي البرميلين، وهنا تكمن صورة المأساة الراهنة، واقع ربما يجعلك تقف أمام ماضي الأزمنة، عاضَّاً على نواجذك، نادباً حظك العاثر، وطوالعك التي لم يوح أفقها بما هو أجمل، منولوج ندم على كل شيء ليس فيه حنين إلى أي من الماضيين غير المأسوف عليهما، ولا رضا على الحاضر بكل ما فيه من تسفيه ومغالطة .. وحياة نفتقر فيها لكل شيء، أضعنا كل تلك الفرص التي كانت سانحة لتغيير واقعنا، ما يجعلنا حتى في أفق ما بعد نزع البراميل نخوض في دوامة الأمس بكل تفاصيلها .

مع يقيننا أنه لا توجد إحداثية ثالثة لوطن لم يجر إهدار مقدراته في مسلسل تجارب رعناء ليس لها غاية أو نهاية.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى