«الأيام» تطوف بديار قلعة المقاطرة وزريقة الشام:لوحات طبيعية معلقة تحاصرها وعورة المكان وأسوار العزلة والحرمان

> «الأيام» علي الجبولي:

>
الموت يتدلى فوق الرؤوس ويتلوى تحت الأقدام ..تئن السيارة من وعورة الطريق وكثيراً ما ارتطمت أجزاؤها التحتية بالصخور والأحجار بوسطه ، مما أجبرنا على الترجل مرات لتخفيف حمولتها. حذرونا مراراً من أن زلة قدم لن تستقر بصاحبها إلا في قاع سحيق يبدو كقعر جرف تحتنا.اجتزنا عقبة تفصل جبلين شاهقين ظننتها نهاية الرحلة ولا يعقل أن نجدد مزيداً من السكان كلما توغلنا في مناطق أوعر.

مرة أخرى أطللنا على تشتت سكاني يكون ما يشبه قرية في أحضان وسفوح الجبال التي تسورها من جهاتها الأربع ، في موضع يقال له (حمل)أسلاك كهرباء تظلل الدور، من أين وصلت الكهرباء إلى هذه الأحراش الوعرة؟ قال أحدهم:«فاعل خير تبرع بمولد كهربائي لكنه توقف عن العمل منذ سنين طويلة». بئر ماء حفرتها فاعلة خير في حضن الجبل كان يغذي معظم المنازل المبعثرة تحت جبال قور وحمل لكنه توقف ولم يعد تشغيله. في السفح الشرقي لجبل منيف تستلقي بلدة (الحيار) الأكثر وعورة وحرماناً لم نتمكن من الوصال إليها.

من أسفل طبقات صماء في عرض الجبل تسمى (حجزة أو مخرط) أو من داخل كهف يسمى (حيد) تسيل عين ماء أو انساغ تشع بماء قليل يشكل مصدراً أساسياً لماء الشرب إلى جانب السقايات التي تنحت بجوار المنازل. توقف الركب بعض الوقت، مشاهد طبيعية تبعث الخوف والقلق. صخور تتدلى فوق قرية (السبيل) لم يعد يربطها بالجبل سوى روابط واهية قبل أن تتدحرج على الساكنين. أرانا أحد المواطنين صخوراً ضخمة تتدلى فوق تجمع سكاني لا يقبضها إلا الرحمن. مشاهد صخور معلقة تشبه رافعة معلقة في السماء وفي خطافها أطنان حمولة يوشك رباطها أن ينصرم لتدهس من تحتها. كثير من السكان لا يخفون تخوفهم من هذه الصخور حاضراً ومستقبلاً، ذكرونا بانهيارات عمران العام قبل الماضي معتقدين أن باستطاعة الآخرين مساعدتهم دون أن يعرفوا نوع وكيفية المساعدة إن لم يبادروا بأنفسهم بالابتعاد عن مواقع الخطر المحدق بهم . هذه التضاريس الطبيعية المعقدة المتنافرة المتناقضة رغم ما تشكله من قسوة وخوف فإنها لا تخلو من مشاهد متعة تجذب السياح من الداخل والخارج لاسيما هواة المغامرات وتسلق المرتفعات.

فرحة امتزجت بالخوف والعتاب

امتزجت الفرحة بالنشوة والعتاب في وجوه أولئك المعزولين بالظروف الطبيعية والاجتماعية وهم يستقبلون لأول مرة مسئولين من الحكومة، أما حينما عرفوا بوجود «الأيام» فإن فرحتهم صارت لا توصف. كلمة ترحيب رصينة مزجت الحفاوة بالعتاب والتذكير بالوعود الانتخابية التي تلاشت، ولخصت أبرز المعاناة «نرحب بهذه الزيارة التي تعتبر الأولى من نوعها لمسئول في الدولة، تغمرنا الفرحة ونجدها فرصة سعيدة لنضع بين أيديكم هموم منطقتنا وما تعانيه من صعوبة في الخدمات الضرورية وكم وعود زائفة وعدنا بها دون جدوى ولم نلمس منها شيئاً على الواقع ،كدنا لا نصدق بتحقق هذه الزيارة ووصولكم إلى المنطقة من كثرة الوعود التي وعدنا بها سابقوكم سنين تتلو سنين .أطفال المنطقة محرومون من التحصين ضد الأمراض الوبائية،لأن السفر من أجل التطعيم إلى مدينة التربة يحمل الأسرة تكاليف باهظة في طريق وعرة يعود بعدها الطفل مريضاً، وكذا إسعاف حوادث التردي الكثيرة من الجبال أو الحريق أو تعسر الولادة والحالات المرضية الأخرى غالباً ما نوصلها التربة وقد فارقت الحياة، لعدم توفر المعلمين، المدرسة إلى الصف السابع فقط ولم تكتمل حتى المرحلة الأساسية بعدها تنقطع بناتنا عن المدرسة ويحرم أبناؤنا من التعليم ، المدرسة بحاجة إلى الترميم والتوسعة.الماء نجلبه من العيون فوق رؤوسنا حتى الحمير لا تستطيع نقله في هذه الجبال وحينما ينضب ماء العيون والسقايات فإن معاناتنا لا توصف، أما الكهرباء فالفانوس لمن يستطيع شراء الجاز ومن لا يستطيع يصبر على غدرته. موضوع الطريق لا يحتاج إلى حديث فمعاناتكم في عبورها هذا اليوم يكفي للإحساس بمعاناتنا وبعض القرى معزولة لا تصلها طريق حتى كتلك التي مررتم بها. نتمنى أن تثمر زيارتكم بتأهيل المدرسة وتوفير معلمين وإصلاح الطريق وإقامة خزان ماء لتجميع مياه الأمطار حتى نستفيد منها للشرب، وتوفير لقاحات وعلاجات للوحدة الصحية».

ميمونة وسيناء من يحقق أمنيتهما؟

كان النهار قد انتصف حينما وصلنا (مدرسة الروضة) التي تعلو تناثراً سكانياً أسفلها يتقارب من بعضه حيناً ويتنافر حيناً آخر.

موقع المدرسة التي غرست في صدر الجبل مثير للحيرة والغرابة. كيف يتسلق التلاميذ والتلميذات تلك الصخور الوعرة للوصول إلى مدرستهم؟ آثار المعاناة والتعب لا تخفى من أجساد التلاميذ والتلميذات، ضمور وشحوب وجفاف ترتسم على الوجوه فتفضح التعب وشظف العيش. لكن العيون توحي بالعزيمة والتفاؤل وشيء من العتاب.تتكون مدرسة الروضة التي بنيت عام 83م من سبعة فصول من الصف الأول وحتى السابع فقط، لا يزيد عدد تلاميذها عن 150 تلميذاً وتلميذة، منهم 58 تلميذة وبها سبعة معلمين. عندما أحضر مدير المدرسة سجل الزيارات ليسجل الزائرون انطباعات زيارتهم كان فارغاً، قال الأستاذ راشد النابهي مدير التربية الأسبق بمديرية المقاطرة:«سجل الزيارات في المدرسة ظل فارغاً منذ تأسيسها قبل 25 عاماً حتى هذا اليوم حينما خط عليه مدير عام المديرية أول الكلمات لأول مسئول يزور المنطقة». تجولنا في فناء المدرسة لمشاهدة التشققات والحالة البائسة لمبناها. حينما التقطت صور بعض التلاميذ والتلميذات شعرت بهمهمة بين التلميذات اعتقدت أنهن يحتججن على التصوير من باب تحريمه كما يلقن كهنة الغلو والتشدد تلاميذ وتلميذات مدارسنا في الصبيحة، بيد أنني اندهشت حينما عرفت أن احتجاجهن كان لعدم تصويرهن أسوة بزميلتهن. عندها أدركت أن هذه المنطقة المتعبة بقسوة الحياة والتضاريس المعقدة ما زالت بكراً نظيفة كطبيعتها لم تصل أفكار الغلو والتشدد لتلوثها وتثقلها بحصار فكري أمر من حصار البيئية الطبيعية الاجتماعية وضنك المعيشية وغياب الخدمات. خلال جولتنا استمعت «الايام» بعضاً من هموم تلاميذها وتلميذاتها ،قالت ميمونة (13سنة الصف السابع):«نشتي نواصل دراستنا، نحن نكمل الصف السابع وما عاد ندرس نروح نرعى و نحطب و نجيب ماء فوق رؤوسنا. نشا يبنوا لنا مدرسة نكمل ثامن وتاسع والثانوية». زادت زميلتها سيناء (14سنة):«ما معنا مدرس إنجليزي نشا مدرسات وتتطور مدرستنا إلى الثانوية» مطالب بلغة بريئة، لكنها أكبر من مشروعة في بحثها عن إجابة مسئولة.

تركنا مدرسة الروضة لافتتاح وحدة صحية من ثلاث حجرات تبرعت بها فاعلة خير منذ سنوات لتخدم نحو ثلاثة آلاف نسمة في ذلك التناثر السكاني، لكن الروتين البليد أعاق افتتاحها كل هذه الفترة الطويلة. فرحة تبدو على وجوه المواطنين بوصول التطبيب إلى منطقتهم، لكنها مشوبة بالخوف هل ستكون السلطة المحلية في مستوى فاعلة الخير فتجهز هذه الوحدة التي تصدقت بها صاحبة القلب الرحيم؟

وترفدها بمساعد طبيب وتزودها باللقاحات والعلاجات الإسعافية ولو بصورة استثنائية كما توسل أبناء المنطقة ووعدت السلطة . أم ستظل جدراناً صامتة لن تقدم أو تؤخر شيئاً من حالهم كما تشير التوقعات. عند الواحدة ظهراً تناولنا على عجل الغداء في منزل أحد المواطنين ، عصيدة صب عليها سمن مخلوط بالبيض واللبن، كانت وجبة لذيذة لا أعرف من أين أتت لذتها أكانت لذيذة بذاتها أم شدة الجوع صنعتها؟ ثم بدأنا مرة أخرى مصارعة الطريق للعودة إلى التربة، في رحلة العودة إلى مدينة طور الباحة التي وصلناها ليلاً منهكين بالإرهاق ومثقلين بهموم ومعاناة زريقة الشام حسب تسميتها التقليدية ،(المقاطرة الغربي) وفق تسميتها الإدارية.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى