حرية وتنوع التعبير لتعزيز ثقافة التغيير

> هيثم الزامكي:

> لاشك أن تصاعد الحراك السياسي في البلد، قد شكل مادة مغذية لنمو ثقافة التصنيف والفرز للمشتركين مباشرة أو غير مباشرة في ذلك الحراك، والتصنيف أمر إيجابي ومطلوب لتنظيم وإعادة تنظيم أدوات اللعبة السياسية بما يخدم أهداف كل طرف.

وبالنسبة للسلطة ومعارضيها، فقد لايجد المهتمون صعوبة في فرز أنصارهم، ولكن هل كل من في الساحة هم سلطة أو معارضة؟ هل نعتبر من هم خارج السلطة أو المعارضة طرفا بلا موقف، ونعاملهم بالاستقطاب؟ أو نحافظ عليهم كفريق وسط؟ هل ينظر للمعتدلين على أنهم سلطة في نظر المعارضة، ومعارضة في نظر السلطة؟ وخلاصة تلك الأسئلة أن هناك تعليقات مختلفة تصنف ما يطرح من آراء على الساحة المحلية، وتحديدا الآراء الوسطية المعتدلة في طرحها، والمتفائلة بإمكانية التغيير والتطوير السلمي، وأبرز ما يطرح من تعليقات على تلك الآراء:

- أنها تتعامل مع الواقع المحلي المعاش بعدم واقعية، وتخاطب الجميع وكأنهم على مستوى واحد من الوعي، وتضع حلولها باعتبار أن الوضع يسير وفق أصول ديمقراطية، مؤسسية وحقوقية نموذجية.

- من طرائف التعليقات المتناقضة التي تتناول الآراء المعتدلة، أن السلطة تعتبرها آراء معارضة، والمعارضة تراها آراء سلطوية، كما يذهب البعض إلى اعتبار تلك الآراء منفصلة عن بيئتها المحلية أو الوطنية، فمثلا تنظر السلطة للآراء التي تتبنى قضايا المعتصمين في المحافظات الجنوبية بأنها آراء انفصالية معارضة، لمجرد تناولها لتلك المطالب، بالمقابل يراها بعض المحتجين، بأنها تدعم السلطة ضد الجنوب، لمجرد أنها تؤمن بالحل في إطار الوحدة، وملخص تلك التعليقات أن أصحابها ينظرون لجهود الوسطية بأنها (دون كيشوتية) لن تغير في واقع الحال شيئا، وعليه فالكل من وجهة نظرهم ينبغي أن يسير إلى اليمين أو اليسار الجنوب أو الشمال، ولا قبول للطريق الثالث.

ومع كل التقدير والاحترام لأصحاب تلك التعليقات، أو القناعات إن صح التعبير، يجب الإشارة إلى بعض المسائل لتوضيح أهم الإيجابيات التي يمكن لجميع الأطراف المتضادة الاستفادة منها، بتقبلها لصوت الوسطية والاعتدال، وأهم تلك المسائل:

- أن الحديث المعتدل، الذي يعيبه البعض بالقفز على الواقع، وافتراضه لشروط غير محققة في البيئة، إنما هو حديث يؤسس لتحقيق ذلك الواقع، عبر مخاطبته للوعي المتجرد من المنافع الخاصة، فالتقاليد الديمقراطية والمؤسسية واحترام الحقوق هي ثقافة التغيير المستهدفة من قبل الوسطية، وتطور تلك الثقافة ببطء، أفضل من وئدها في مولدها بتبني وجهات نظر متصلبة، ولاينبغي أن يفهم هذا الحديث على أنه تبرير للتخلي عن القضايا الجوهرية، فيصبح تخاذلا وليس اعتدالا، والمقصود هنا، هو الاعتدال في وسائل التعبير والنضال لتحقيق تلك القضايا، وعقلنتها والاستعداد الدائم للحوار والتباحث حولها.

- أننا جميعا، أطرافا ووسطا، معنيون بترشيد اختلافنا، قبل أو أثناء لحظة زمنية قادمة سيفرض فيها الحل نفسه على الجميع، وإذا ما فقدنا الوسطية في تلك اللحظة، أو أثناء السير إليها، سنخسر كثيرا قبل الاتفاق، بل وقد نستمر طويلا في تحمل الخسائر، حتى بعد الاتفاق.

- الوسطية عين ثالثة تملك ميزة عرض ما ترفضه الأطراف المتضادة فيما بينها، فبأي منطق نغلق هذه القناة التوافقية الخيرة.

- يكون الاعتدال موقفا سلبيا عندما يغير الحقائق، أو يزين الباطل، لكنه حين يقدم الحقائق بلغة هادئة تملك القبول والتأثير على الأطراف المتضادة، يصبح موقفا إيجابيا، ويلعب المعتدلون إينما وجدوا، دورا هاما في حماية المتخاصمين، وبالتالي حماية المجتمع كله، وكلما كان فريق الاعتدال كبيرا، زادت قدرته على لعب دور الحكم في الصراع، باعتباره الكفة التي ترجح الصواب في ميزان الاختلاف، ولنا أن نتخيل خطر ساحة الصراع عندما تكون مقسومة بين طرفين لا ثالث بينهما.

- المشاركة أو التفرد في صناعة الحدث، ليست حقا للسلطة أو للأحزاب فقط، ولايحدد مصداقيتها الصوت العالي لأي طرف يضع قناعاته، ويحتكر لنفسه حق تنفيذ تلك القناعات على الأرض، إنما هي حق للجميع وتتحدد بقناعات وتصرفات تقدر مصالح الناس ورغبتهم في العيش بسلام، وهنا يظهر الفرق بين الاعتدال والتطرف، فالتطرف لايهتم إلى فداحة الوسيلة التي ينتهجها لإحداث التغيير بقدر ما يهمه إحداث ذلك التغيير، بينما يهتم الاعتدال بكل السبل الممكنة التي يمكن أن تحدث التغيير دون الدخول في دائرة العنف، والتغيير الذي تؤمن الوسطية بحدوثه يتم عبر النضال السلمي، الصبر، المشاركة، وخلق القواسم المشتركة مع الآخرين، تطوير العمل السياسي، وفهم حقائق المرحلة من منظور عقلي يترك للمستقبل نصيبه للمساهمة في أحداث ذلك التغيير، فلا يأسف أحد على عدم حدوث ذلك التغيير في حياته، بل يأسف عندما تمضي حياته دون أن يعمل بجد وإنسانية، لحدوث ذلك التغيير، ويهتم الاعتدال بثمن التغيير أكثر من اهتمامه بزمن التغيير، وأثمن ما يمكن الاهتمام به هو الإنسان أولا قبل المكاسب، سواء جاءت تلك المكاسب سريعا أم تأخرت.

وأخيرا، لا ينبغي النظر إلى أنصار الاعتدال كفريق يجب أن يأتي من خارج الأضداد، بل يجب تعزيز تواجدهم داخل الأضداد نفسها، المعتدلون في السلطة هم مكسب للمعارضة، والعكس صحيح، فلنفسح مجالا للصوت المعتدل، وسط هذا الزحام السياسي المقلق، وليحاول كل طرف أن يرى الحقيقة بعين الآخر، ليرتقى الجميع بحرية وتنوع التعبير لتعزيز ثقافة التغيير.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى