في ذكرى رحيله الثامنة.. نافذة على شعره السياسي مقاوماً تقسيم حضرموت في زمنين.. من يقول للسلطة والحكومة «لا..لا..لا».. بعد المحضار؟!

> «الأيام» رياض عوض باشراحيل:

> رأينا في الحلقة الأولى كيف تصدى المحضار لمقاومة تقسيم حضرموت قبل الوحدة، وهو فكرة لا واقع، وكيف عبر عن ضمير شعبه ونبض الجماهير وإرادتها في رفض التقسيم رفضا مطلقا، إذ استطاع الجناح المعتدل في السلطة السياسية آنذاك الاستجابة لرغبة الجماهير ووأد فكرة التقسيم في المهد.

وبعد الوحدة في العام 1996م حدثت إعادة للمشهد السياسي نفسه في محاولة ثانية لتقسيم حضرموت في زمن الوحدة، فتذكرت الجماهير المثل القائل: «ما أشبه الليلة بالبارحة»، وعادت الناس في حضرموت تطلب أغنية المحضار: «لا..لا.. لا تلقي لها سوم» من جديد في الحفلات والأسمار والأشرطة، وتتذوق الاستماع إليها بعبق جديد، وكأنها لسان حالهم المعبر عن رأيهم في أزمة القرار المعاصر والمعلن لتقسيم حضرموت إلى محافظتين، وظلت الأنظار متجهة إلى المحضار شاعر الجماهير والوطن تترقب عطاء سحابته الشعرية، وما ستجود به من فن وفكر ورأي وموقف إزاء هذا الحدث الكبير، وكان الناس يتساءلون يا ترى ماذا سيقول المحضار من جديد في هذه الأزمة؟ ولم يدم انتظار الجماهير طويلاً، ففي مناسبة ذكرى أعياد الثورة سبتمبر وأكتوبر للعام نفسه وصل المحضار إلى مدينة سيئون للمشاركة في المهرجان الخطابي الكبير بحضور الأخ عبدالعزيز عبدالغني، رئيس مجلس الوزراء حينها ممثلاً عن السلطة والحكومة، نهض المحضار في المهرجان وألقى قصيدته تحت عنوان «لو حضرموت العين سيئون الطويلة النون»، التي أعلن عن عنوانها واستهلالها أمام السلطة الحاكمة رفضه للتقسيم، مشاركاً جماهير الشعب هذا الموقف ومعبراً عنه أمام القيادة، وهذا الرفض في رأي شاعرنا واجب وطني يخدم به قضية شعبه وأرضه قبل أن ينفصم عراها وتعبث بها رياح التمزيق والتجزئة. قال المحضار:

بداية الأعياد هذه العام من سيئون

سيئون أرض الفن وأرض الحالي المزيون

والكل يدعيها عروس الوادي الأخضر

لو حضرموت العين سيئون الطويلة النون

من سابق الأزمان اسمي باسمها مقرون

إذا دعتني جيتها في برد أو في حر

ولم يزل قلبي على غزلانها محنون

ووعولها ذي نا عهدهن ناصبات قرون

هل عادهن في الأرض وإلا خذهن المهجر

ويربط الشاعر موقفه النهائي ومضمون قصيدته بحبل عنوانها، وبالنظر إلى صدر البيت الثاني، والمأخوذ منه عنوان القصيدة. نرى كيف صور الشاعر سيئون بالنون عندما جعل حضرموت موحدة هي العين؟ فهل يوجد من يستطيع أن يفصل نون العين عن العين؟ وهل تستطيع أن تؤدي العين وظائفها الحيوية من دون النون؟ وهل يستطيع النون وحده أن يؤدي عمله بعيداً عن العين؟.. أسئلة متعددة لن تجد لها غير جواب واحد، وهو استحالة فصل العين عن النون لأنه لبها ومركزها، وفي مكان القلب من الجسد، والجزء الذي لا تكتمل العين إلا به.

ثم ننظر لقوله «من سابق الأزمان اسمى باسمها مقرون» والمحضار باسمه هنا إنما يمثل ساحل حضرموت وسيئون هي وادي حضرموت، فمنذ فجر التاريخ والساحل والوادي مترابطان ومقترنان معاً تحت مسمى حضرموت، فعلامَ التفرقة والتقسيم والتجزئة اليوم؟ ولماذا الضعف والركاكة والفقر بعد القوة وشدة البأس والغنى؟ وما هي أسباب الانفصال في زمن الوحدة؟ وهذا البيت بالفعل هو «بيت القصد» حسب تعبير القدماء، بل هو القصيد بأكمله كما نرى، وهو المبدأ والموقف والقضية والهدف كما أشرنا سابقاً.. فالمحضار هنا يعلن موقفه الواضح المناوئ للتقسيم والمعارض للتجزئة، لأنه يؤمن بأن الوحدة بناء وصلاح وخير، والتفرقة هدم وخراب وشر. وذم التقسيم ومقاومة شره وأضراره تعني الإشادة بالوحدة باعتبارها حصن الوطن من الآفات، وعطره الفواح ومصدر التطور الاجتماعي. قال المحضار:

في هذه الأيام عنبر يرتوح ودخون

والفل والكاذي بين الزهر والحنون

وتفاءلوا يا أهل اليمن ماشي عليكم شر

بالله وبالوحدة وبالقائد وبالقانون

بانطرد أهل الضر بانقضي على الطاعون

لي هو بطي فينا وفي أجسادنا ينخر

ذاك الدرن ذي كان باتغسله بالصابون

الكيل كله عالنظافة مايهم اللون

ماعندنا شي فرق بين أبيض وبين أحمر

رائع جدا قوله «الكيل كله عالنظافة مايهم اللون»، أين نحن اليوم من هذه المعاني والغايات، أين النظافة والأيادي البيضاء والقلوب الصادقة؟ فالمحضار لا يهمه الأفراد ولا انتماءاتهم ولا ألوانهم بقدر ما تهمه النظافة في القلب واليد واللسان، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب، هذه هي القيم والمثل والمعاني والغايات الاجتماعية التي تجعل المحضار يقبل على الوحدة ويعض عليها بالنواجذ!! ويأبى التقسيم والتجزئة ويفر من عواصفها المدمرة، لأن في كنف الوحدة يجب أن يختفي الإحساس بالظلم وبالفوارق بين أبناء الوطن، ويجب أن تتجه السواعد في ظل الوحدة نحو البناء العام للوطن لا النهب العام، وأن يختفي الظلم وتسود العدالة الاجتماعية، لأن فيها ضمان النصر، وفي التجزئة هدم لصرح الوطن الذي بناه الشعب، وفي ضوء ذلك من يحاول السعي نحو التقسيم فهو معاق ذهنياً وقواه العقلية غير سليمة.

هاقد توحدنا وأصبح نصرنا مضمون

ولعاد بانسمع كلام الناس لي يهذون

ذي هم بغوا البنيان ذي نبنيه يتكسر

مجنون لي قال إننا بانفترق مجنون

وايش بايفك الربط لي رابطه رب الكون

نحنا خوة من قبل نجم السنبلة يظهر

والمحضار من خلال هذه الأبيات استطاع أن يطرح قضيته بالحفاظ على وحدة حضرموت، مناوئا تقسيمها من خلال قضية وطنه اليمني كله، وذلك بالحفاظ على منجز الوطن (الوحدة)، وصيانتها من الآفات والعواصف المدمرة والظلم الاجتماعي، ومن تحول رجال السلطة والمناصب الحكومية إلى هيئة منتفعين أو مبتزين تنظر إلى الوحدة والمنصب الحكومي أو السياسي بوصفه غنيمة وبقرة حلوب ووسيلة للإثراء والنهب والسرقة وسيلة للهيمنة وبسط النفوذ، وهذا هو الهدف الأسمى الذي سعى المحضار لتأكيده في فنه. فالوحدة كل لا يتجزأ، من يعمل لوحدة الكل لابد وأن يعمل لوحدة الجزء أولاً، لأن وحدة الكل لن تتحقق في الواقع الاجتماعي والنفسي لجماهير الشعب إلا بوحدة الجزء لا بتقسيمه أو فصله. هذا هو موقف المحضار من قضية مهمة من قضايا وطنه السياسي عكسه لنا في هذا الشعر السياسي والوطني.

وقد استجاب فخامة الرئيس علي عبدالله صالح لمطالب الجماهير التي حملها المحضار والنخبة المثقفة وقادة الرأي الاجتماعي في الوطن حينها بالتخلي عن هذا القرار وإصدر تعليماته بالنأي عن التقسيم وإبقاء كيان حضرموت موحدا وصرحه شامخا حفاظا على الأصالة والهوية والوحدة والتاريخ والتراث والقيم، وحفاظا على الحاضر وقوة البناء الاجتماعي كما جاء في شعر المحضار.

فشاعرنا المحضار كان في حياته وشعره مفكرا ومبدعا وطنيا أصيلا استطاع أن يبث تيارات من الوعي الوطني والسياسي المتدفق في خطابه الشعري، زهد في المناصب والرتب ونأى بنفسه عن الحزبية أو الانتماءات الضيقة، ولم يؤيد سلطة حاكمة في وطنه أياً كانت إلا لمحاسنها، ولم يذمها إلا لمساوئها، وجعل انتماءه للشعب وولاءه للوطن، بدليل ثباته بإرادة صلبة وعزيمة لا تلين على مواقفه المبدئية من قضايا الوطن، التي ظل متمسكاً بها كالقابض على الجمر طوال حياته، والتي لم تتغير على تعاقب السلطات الحاكمة وعلى كل المراحل والمنعطفات السياسية التي مر بها وطننا اليمني.

ولعل ما يميز المحضار بالصدق والشجاعة والأصالة في معالجة قضايا وطنه أنه كان يرفض القرارات التي لا تخدم الشعب ويحض على كشف سلبياتها ومقاومتها وهو داخل الوطن، وفي وجود السلطة والحكومة التي أصدرتها، وهو بذلك وطني حق ومحب لشعبه، وهو أسمى من الذين يزايدون باسم الوطنية والحكومة وهم تحت حمايتها أو هم خارج الوطن.

وبمثل ما قال المحضار متحدياً الحكومة والسلطة في زمنين «لا..لا..لا».. رافضاً تقسيم حضرموت وتشطير الأرض الواحدة!! فمن سيقول اليوم بعد المحضار «لا..لا..لا».. في رفض مظاهر الفساد العام الذي ينخر في جسد الحكومة والحياة العامة، ويعطل مصالح المواطنين، ويعود بحياتنا الاجتماعية في وطن الوحدة سنوات طويلة إلى الوراء؟!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى