قبل أكثر من نصف قرن في خليج عدن ..حوت وعنبر ووزف وغناء للبحر بلا عزف!!

> محسن عبده قاسم:

>
صيادون في خليج عدن
صيادون في خليج عدن
موقع عدن الجغرافي أكسبها مكانة إستراتيجية مهمة جعلت منها ميناءً عالميا، فصارت المياه الممتدة من المدخل الجنوبي للبحر الأحمر حتى شواطئ حضرموت تعرف بخليج عدن، وهو غني بثروته السمكية.

كثيرا ما يتردد ذكر خليج عدن في وسائل الإعلام المختلفة بفعل الحرب الدائرة بين الفصائل المتناحرة في الصومال الشقيق، وما ينتج عن تلك الحرب من نزوح مستمر لفارين لاجئين إلى اليمن عبر هذا الخليج.

والشريط الساحلي لعدن مغطى بكثير من الخلجان ذات الشواطئ الجميلة، بدءا من حقات وصيرة حتى البريقة وفقم وخورعميرة.

خليج صيرة

يقول طيب الذكر الأستاذ الراحل الحاضر عبدالله أحمد محيرز في ص 15 من مؤلفه (صيرة) الصادر عن جامعة عدن: «... إلى اليوم تفنن الناس في تسمية هذا الخليج، فسمي كما سبق (مكلا عدن) و(مكلا صيرة) و(البندر)، وهو اسم بقي إلى اليوم يطلقه شيوخ الصيادين على رأس صيرة نفسه، وأضيفت إليه أسماء أخرى بعد الاحتلال البريطاني، فسمي بالخليج الأمامي، والخليج الشرقي، والخليج الداخلي، كما أضيف له اسم رابع بعد أن أقيمت على ساحله المنشآت العسكرية بعد احتلال الإنجليز للمدينة (Ragiment)، وحرفت هذه إلى (الرزميت)، وأطلق على الخليج (خليج الرزميت). وفي الواقع اقتصر هذا الاسم على نصفه الشمالي باتجاه سلسلة المنصوري، بينما استمر الناس بتسمية الجزء الجنوبي ساحل صيرة».

ثمان سمكات في سمكة!!

ورد في ص 8 من «فتاة الجزيرة» 28 يناير 1940م هذا الخبر: «(سمكة هائلة) قبض الشيخ محسن العدني على سمكة لخم هائلة الحجم من خلاد، وقد وجد في بطنها 8 سمكات كبيرة طولها 10 أقدام».

عنبر من البهلول!

وفي ص 11 من «فتاة الجزيرة» إصدار 20 فبراير 1949م، نقرأ الخبر التالي تحت عنوان (الحوت): «وجد على ساحل خورمكسر قرب العلم حوت ضخم، هو الأول من نوعه في عدن، ولعله من فصيلة العنبر، ويقول بعض الحواتين إنه معروف باسم (البهلول)، وقد امتد الحوت كالصخرة الكبيرة على الساحل، وأخذ بعض الحواتين يقطعون منه ما يحتاجونه، وهو الآن فريسة النسور ولكنه حوت. لو كان لنا متحف يهتم بهذه الأحوال لاحتفظ بعظامه للتاريخ».

حسن أغبري وحديث عن الحوات العدني

وأنا أتصفح كتيب (أقلام المخيم) الصادر عن مطبعة (فتاة الجزيرة) في عدن في 14 يوليو 1942م، وجدت موضوعا قيما للأستاذ الأديب والوطني الراحل حسن حسن أغبري، يتحدث فيه عن الحوات العدني، والموضوع من عدة مواضيع لأساتذة أفاضل شكلوا أعضاء لمخيم أبي الطيب، وهو نادٍ أدبي ثقافي تأسس في 16 مارس 1939م تحت رئاسة الأستاذ الراحل محمد علي لقمان المحامي.

جاء في موضوع (الحوات العدني): «كان صيد السمك من مهن أهالي عدن في القديم، وقد اشتهروا في الأراضي المجاورة، كما اشتهرت عائلات عديدة منهم، وإن كنا لانجد من بقايا عائلاتهم إلا عشرا على الأكثر، يحضرني منها الآن عائلات القعر والكرار، وعائلة القطيلي، وعائلة الشيخ محسن، وعائلة الدهمشي، وعائلة الزمكير، وعائلة القرادي، وعائلة داوود، وعائلة عليوة، ومايزال أفراد هذه العائلات موضع التبجيل والاحترام بين حواتي عدن».

وأراني في حاجة لأن أشرح لكم شيئا عن خلاد، لأنه غريب عن أكثركم بين بحور عدن المعروفة، يروي الحواتون العدنيون أن خلادا هذه كانت في يوم من الأيام مدينة عظيمة مأهولة بالسكان، إلا أن الزلازل والبراكين التي كانت تحدث في عدن في القديم قد طمستها وقلبت عاليها سافلها، ويبرهنون على قولهم هذا بالصخور الكبيرة الموجودة بكثرة في قاع البحر، وقد يكون هذا صحيحا إلا أن التاريخ لايذكر لنا شيئا عن هذه المدينة.

الأغبري قال كلمته، فماذا يقول أهل التاريخ اليوم؟

للتوضيح فإن بحر خلاد يقع جنوب شرق جبل قلعة صيرة، ويمكن الوصول إليه خلال 45 دقيقة بالزوارق ذات المحركات.

تعال نتعشى وزف وحلبة!

تحت العنوان أعلاه نشرت «فتاة الجزيرة» في ص 5 بتاريخ 13 فبراير 1949م مايلي:

«احتشدت جيوش جرارة من الوزف المعروف على ساحل عدن في أوائل الأسبوع المنصرم، وكان الحشد على غير موعد وانتظار، وأطيب الطيبات حبيب يأتي بلا ميعاد!».

ولعل الغريب أن لهذا الوزف نظام هجرة، فهو يهاجر، وقد كان قبل شهرين على سواحل فقم والبريقة، ولم يهاجر إلى عدن إلا في أواخر عام 1941م أو حواليه، وكانت هجرته الأخيرة قبل سبع سنوات.

والوزف دليل على ثروة البحر من السمك، لأن الوزف في قاموس البحر طبق مغر للأسماك، فهو يجر وراءه جيوشا من الباغة، وهو نوعان: كبير وصغير، أما الكبير فأصغر من العيدة بقليل، وأما الصغير فحوالي بوصتين طولا.

وكانت أسراب الوزف في هذا الموسم كثيرة مترامية، ولعل القارئ لاحظ السيارات مشحونة بـ (العدل) من الوزف الصريع.

والوزف تجارة مزدهرة، وموسمه في اللحيّة وسائر موانئ البحر الأحمر، وعادة يكون في أوائل السنة الميلادية، وتصل به السواعي من هذه البقاع إلى عدن، حيث يباع في أسواق عدن وتشترى به أقمشة وسائر محتاجات تلك المناطق.

ومن أشهر مستوردي الوزف الوجهاء محمد سعيد واحد، وعبدالرحمن عبده سعيد، وسليمان علي البهيجي، ومحمد سنان ماوية.

ومن أشهر تجار الوزف الوجهاء عمر سالم باعبيد، والشيخ أحمد منصور، وسالم باسندوة، وعمر باقحوم، وهؤلاء يشترون الوزف للتصدير إلى الخارج.

وكولومبو- عاصمة سيلان- سوق زاهر للوزف، وهو عادة ينشف في عدن ويرسل في (عدل) إلى كولومبو.

جانب من خليج صيرة
جانب من خليج صيرة
ويباع الوزف بسعر يتراوح بين 35 و 40 روبية الهندرويت، أي ما يساوي أربع فراسل، وفي أشد حالات العدم لايتجاوز سعر الفراسلة الواحدة 8 روبيات، بينما يقل سعره إلى أربع روبيات للفراسلة في حالات الوفرة.

وللوزف آفاق مختلفة للاستعمال، فمنها السماد، ولذلك يصدر من الوزف إلى الهند ومصر وسيلان، حيث يغني التربة ويصلح الثمر، وفي اليمن وفي عدن نستعمله طعاما، وله عدة طرق منها:

-1 أن يكون الوزف مجمرا حتى (يشحط)، ثم ندقه لنرشه على الحلبة.

-2 نطحنه مع بسباس وثومة كخصار.

-3 نعمل منه (صانونة وزف) مطفى. ألا تريد معي طبقا من الوزف والحلبة؟

مواويل للبحر وغناء لرجاله

من العطاءات الكثيرة والرائعة لفناننا الكبير الأستاذ محمد محسن عطروش أغنية (هيبة) خص بها فئة الصيادين الذين يصارعون أمواج البحر، طلبا للرزق الحلال.. تقول الأغنية في بعض أبياتها:

يا صماصيم ما تخاف

من جور الأمواج

بالمجاديف كربجوا

الأمواج كرباج

باسألك من حيد صيرة

أكرم الأيدي الفقيرة

أبو أنيس وفرقة صيادي صيرة

بالعودة إلى سبعينيات القرن الماضي، فقد كانت لصيادي صيرة فرقة غنائية قوامها عدد من الصيادين، بقيادة المرحوم ناجي محمد ناجي، وشاع اسمه بين الناس (أبو أنيس)، الذي كان يأسر القلوب بمواويله عن البحر:

يابحر شيبت بي ونا ماكان براسي شيب

يابحر أنا لما دخلتك ونا بعز شبابي

واليوم يابحر قدنا شيب أمشي على عكازي

يابحر أنا باسألك عن قصة حياتي

باسألك فين أبويا وأجدادي

يابحر أنا ولدت فيك

وباعيش معك حتى مماتي!!

وهنا دعوة لأستاذي العزيز نجيب اليابلي أن يدرج اسم (أبو أنيس) في قائمة رجال في ذاكرة التاريخ، فقد كان رجل البحر، وشكل مع باقي رفقته جزءا من تاريخ هذه المدينة العريقة.

فرقة صيادي صيرة ويبدو(أبو أنيس) مؤشر عليه
فرقة صيادي صيرة ويبدو(أبو أنيس) مؤشر عليه
من يركب البحر لا يخشى من الغرق!!

وأنا بصدد إعداد ما وقع بين يديك عزيزي القارئ، سألني أخي وصديقي عادل يحيى العمري أحد كوادر وزارة الثروة السمكية في عدن: ماذا سنقرأ لك في «الأيام»؟ قلت: مادة عن البحر. قال ممازحا: احذر البحر!! قلت له: أما سمعت فيروز المتألقة أبدا وفرقتها عندما غنت أحد الموشحات الأندلسية:

جاءت معذبتي في غيهب الغسق

كأنها الكوكب الدري في الأفق

فقلت نورتني ياخير زائرة

أما خشيت الحراس في الطرق

فجاوبتني ودمع العين يسبقها

من يركب البحر لايخشى من الغرق.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى