كــركــر جـمـل

> عبده حسين أحمد:

> أعرف إنساناً عزيزاً قد تجاوز السبعين من عمره.. أحسست بالإشفاق عليه وهو يجتاز ذلك الرقم السبعين .. وهو يقطع هذه المسافة بين الذي يريده ولا يستطيعه.. وبين الذي يقدر عليه ولا يرغب فيه.. وهذه ليست فلسفة ولكنها رؤية إلى الحياة.. إلى الناس.. إلى التاريخ.. إلى أعماق النفس البشرية.. إلى عقله وقلبه.. فالذي يريح نفسه هو الذي يريح عقله.. ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث.. وفي الوقت نفسه كان يكره هذا الشعور لأنه تسلل إلى داخله بدون استئذان.. أي دخل بالقوة.. ومكث في أعماق نفسه سبعين عاماً.

> إذن الرجل قد كبر.. وصار عمره أكثر من سبعين عاماً.. وما أدراك ما السبعون!.. حاول أن ينسى كل شيء.. حاول أن ينسى شهادة ميلاده.. أن ينسى متى ولد؟.. وكم بلغ من العمر.. وحاول أن يتفادى أصدقاءه وزملاءه الذين تربى وعاش وتعلم معهم لكي لا يذكروه بعمره.. حاول كل ذلك ولكنه لم يستطع.. فكلما نظر إلى الشعر الأبيض في رأسه والشعر الذي سقط أيضاً.. والتجاعيد المرسومة على وجهه ورقبته.. تذكر حقيقة واحدة مريرة تحمل رقماً ملعوناًً هو السبعون.

> وعرفت أيضاً أنه أصبح يتضايق من أشياء كثيرة في حياته.. فهو يعيش همومه وهموم الناس.. ويتوجع لمتاعبه ومتاعب الناس الذين عرفهم والذين سمع عنهم.. فقد وصل إلى السن التي يتحول فيها الإنسان إلى مزيج عجيب من الأحزان والمآتم على الذي حدث والذي سوف يحدث.. وسيطرت هذه الأحزان والآلام على رأسه وجعلته يطوي نفسه على همومه وأحزان الناس.. وعندما يحاول أن يكون رجلاً عملياً لكي يقنع نفسه بالفشل دائماً.. لأن الأحداث تغيرت- وصورة الحياة أيضاً تبدلت- فقد أصبحت اليوم غير تلك عندما كان في الثلاثين من عمره.. وتذكر أيام شبابه عندما كان يقرأ حوادث السرقة والنهب والكوارث والمصائب والقتل التي تنشرها الصحف.. كان يقرأ ذلك أيام الشباب وهو غير مصدق.. ولم يكن يعلم أنه سوف يشاهد كل ذلك وأكثر أمام عيونه بعد أربعين عاماً.. ولم يكن يتصور أن الحياة ستتحول مع الأيام إلى شيء يبعث على الرثاء والشفقة والأسى والدموع.

> وفي أيام الشباب كان صاحبي يتكلم كثيراً.. كان يحب الكلام في أي شيء ولا يتعب من الكلام.. ولكنه بعد السبعين شعر بالضجر من الكلام وأصبح يلتزم الصمت.. فهو يخاف أنه إذا أصبح رجلاً عجوزاً لابد أن ينتقل إلى حالات أخرى.. إلى عالم النسيان والهذيان.. لاسيما أنه في ذهول تام هذه الأيام.. فهو لا يرى ولا يسمع مع أنه مفتوح العينين والأذنين.. ولكن لماذا ذلك كله؟.. هل هو متعب جداً.. أم أن العمر له أحكامه.. أم أن الوقت لم يعد مناسباً للكلام؟.. حتى أصبح كل إنسان محسوباً عليه كلامه.. ولذلك أصبح خائفاً من أن يتهور ويقول كلاماً سخيفاً في نظر الآخرين.. وكفاه ما سمع ورأى.. وهو ليس في حاجة إلى أن يضاعف متاعبه وعذابه وآلامه بعد السبعين.

> الذي أعجبني أنه فهم أن كل شيء يجب أن يتغير ويتبدل.. فلا شيء ثابت أو نهائي.. إنها تجربة حياة مليئة بالمآسي والأحزان ولايزال يعيش هذه التجربة بدون اختياره!!..

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى