عدن وأمين الريحاني

> «الأيام» نجمي عبدالمجيد:

> يعد الأديب العربي أمين الريحاني من رواد النهضة الأدبية في الشرق، وأحد أعمدة أدب المهجر الذين نقلوا من الفكر العالمي إلى ثقافة العرب، وأضافوا من تراث الحضارة العربية الإسلامية إلى عقلية الغرب.. ومابين ميلاده بتاريخ 24 تشرين الثاني (نوفمبر) 1876م - وتاريخ رحيله 13 أيلول (سبتمبر) 1940م، كانت مرحلة حافلة بالأسفار والتأليف. ومن المناطق والمدن التي زارها وكتب عنها مدينة عدن، مدينة عربية تحت الإدارة البريطانية، فهو كاتب يبحث عن المجد العربي وعز العرب في زمن تغيرت فيه أشياء وغابت معالم.

ماذا قال أمين الريحاني عن مدينة عدن.. وكيف وصف الحياة فيها ؟؟

عدن عام 1922م

في عام 1922م وصل أمين الريحاني إلى عدن، وكان بصحبته الشيخ قسطنطين يني، وزير المملكة الهاشمية.. وعدن كما رآها مدينة التجارة والفحم والمضارب العسكرية، وهي من الوجهة الحربية جبل طارق الشرق، أما من الجانب التجاري فهي مركز استيراد وتوزيع مهم في البحر العربي، ومن الجهة البحرية هي مستودع فحم لكل بواخر العالم التي تمر بين الشرق والغرب، وهي قبل ذلك المستودع الرئيس للبواخر البريطانية في الطريق بين الجزر البريطانية والهند، لا يفوقها غير جبل طارق وقناة السويس .وتنقسم عدن إلى: عدن الفحم والحصون والسياسة، وهي منطقة التواهي والمكان الذي عرف بالقسم الأوروبي، وعدن التجارة، وتعرف باسم (كمب) أي المعسكر، وكانت عدن كمدينة تجارية بحرية أقامت فيها عدة مؤسسات مالية وشركات عالمية، مثل شركة البينو التي أسست في عدن عام 1843م، وفي عام 1820م تم إنشاء محطة للفحم في عدن، وفي منطقة التواهي توجد دار المعتمد البريطاني، وقد كان يشغل هذا المنصب (المقيم السياسي) ميجر جنرال جاي ام. اي . سكوت من عام 1920م حتى 1925م، وكذلك القنصليات، مثل القنصلية الفرنسية التي أنشأتها الحكومة الفرنسية في عام 1857م، وكان رجل الأعمال الفرنسي السيد الفرد باردي قد وصل إلى عدن في عام 1878م، وفي عام 1881م تغيرت الأحوال بأن تحولت القنصلية الفرنسية إلى قنصلية مساعدة، ولكنها عادت بعد 20 سنة إلى قنصلية، وكان موريس رياس القنصل المساعد في عدن منذ عام 1899م مديراً لوكالة القنصلية، وظل مقر القنصلية في شركة رياس حتى عام 1928م، حيث قامت شركة النقل البحرية بتولي إدارة مكتب القنصلية حتى إغلاق الشركة عام 1941م .

ومنذ عام 1885م حتى عام 1899م كانت عدن بالنسبة للفرنسيين محطة مراقبة مهمة لمستعمراتها على شواطئ الصومال، وكانت شركة النقل البحري الفرنسية قد أدارت القنصلية المساعدة في عدن حتى عام 1881م، ومن يونيو 1897م حتى نوفمبر 1898م، ومن مايو 1899م حتى 1903م كانت تحت إشراف شركة ريس، وكانت عدن حتى عام 1868م تقع في دائرة قنصلية فرنسا في كلكتا بالهند، ولكن في عام 1869م أصبحت تابعة لقنصلية بومباي، وفي 1848م تم إنشاء خدمة إرشاد السفن في عدن .

كما ضمت منطقة التواهي منازل ضباط الجيش البريطاني والموظفين وعدداً من المستودعات التي تباع فيها كل أنواع البضائع من الشرق والغرب، أما القسم الثاني من مدينة عدن فهو مركز تجمع لعدد من السكان، وصل عددهم إلى 40 ألفاً كما يذكر أمين الريحاني، وهم من كل شعوب الأرض والأديان، وعن هذا يقول :«فيها المسلم الذي يصلي لله، والبارسي الذي يصلي إلى الشمس، والبُنيا الذي يصلي إلى الأوثان، والمسيحي مكرم الصور والصلبان، والإسماعيلي صاحب صاحب الزمان، واليهودي مسبح الذهب الرنان .

وفيها من يغسلون ويكفنون أمواتهم، ومن يحرقونهم، ومن يحملونهم إلى برج السكينة لتأكلهم النسور والعقبان .

كل هؤلاء يتاجرون ولا يتنافرون، ويربحون ولا يفاخرون. أما بيوتهم فواحدة، لا تعرف أعربية هي أم هندية أم أوروبية، وأما أديانهم فهي كالأشجار والأدغال في الغاب، وهم في ظلالها لا يتغيرون ولا يتطورون. الزاهرون والزاهرات والشائكون والشائكات .

قلت إن يوم زار المسيو لاروك عدناً لم يكن فيها غير الإسلام وحفنة من اليهود والبنيان. أما اليوم ففيها من المذاهب الدينية مائة مذهب ومذهب، تعيش كلها في فم البركان بسلام وأمان .

وليس فيها غير واحد من المذاهب السياسية، تصونة التقية ويعززه الدينار والقوة، هو مذهب الاحتلال. والتاجر -وطنياً كان أو أجنبياً- هو دائماً مع الحكومة. أو بالأحرى لا يهمه من الحكومة غير الأمن والنظام .

ومهما قيل في حكومة عدن البريطانية، فالأمن والنظام ركنان فيها ثابتان .

تدعى عدن الثانية المعسكر، لأن فيها الثكنات وقسماً من جيش الاحتلال. وهي في حلقة من الجبال السحماء يكلل قننها حصون قديمة مهجورة لأن الإنجليز يستغنون عنها اليوم بالمراكب البحرية. أما أشهر ما فيها من الآثار ما تبقى من ظل مجدها الغابر فهي سدود الماء، تلك السدود المبنية في مضيق متحدر بين جبلين، بناء متيناً محكماً محفوراً بعضها في الصخور، سد فوق سد، يصب الواحد مياهه حين يمتلئ في السد الذي تحته، حتى تفضي بعد امتلاء عدة أسداد إلى الخزان الأخير القائم عند سفح الجبلين، ولكن هذه السدود وهي من أجمل الأعمال الهندسية في العالم لا تمتلئ لقلة الأمطار إلا مرة أو مرتين كل بضع سنوات .

وفي التواهي أي عدن السياسة، دائرة أشغال هي أهم من كل ما ذكر هناك. وبين تلك الربى المكللة بالحصون الحديثة، المتصلة بعضها ببعض بوساطة الأنفاق، رابية لا علاقة لها مباشرة بالحروب أو بالسياسة.

رابية عامرة نيرة منيرة، بيوتها كلها حديثة هندسة وبناءً، ومهنة سكانها أهم من المهن الرسمية كلها. هي قرية قائمة بذاتها فيها المطعم والحانة والنادي وأسباب اللهو والرياضة والراحة جميعها. وإليها ومنها تمتد الأسلاك، أسلاك، أسلاك السحر الحديث، سحر العلم والعمل. من الشرق وجزر الشرق الكبيرة، من أستراليا والفلبين، من إفريقيا وأوروبا، من قارات الأرض تجري أمواج السحر في أسلاك العلم والعمل. فتهمهم وتطن تحت الماء في أعماق البحار، وتبرق على صدر اليابس، ونورها كامن في السلك، والسلك في القماش، والقماش في القار، والقار في الحديد. هي أنباء العالم، أنباء التجارة والاجتماع والسياسة، يحملها البرق تحت الأمواج فتصل إلى عدن، تلك الربوة المهمة فيها، إلى مركز البرق هناك. ثم تتوزع منه كما تتموج إليه أمواجاً. فتربط الأمم الشرقية بالغربية، وتقضي على المسافات في المعاملات والمراسلات، تحصرها في سلك نصفه يمتد من تلك الرابية شرقاً وجنوباً، والنصف الآخر غرباً وشمالاً. وهذا السلك هو قوام الاتصال بين الشرق والغرب، بل هو قوام التجارة وأحد أركان المدنية والعمران. لاشك أن في العالم مراكز برق أكبر من تلك التي في عدن.

ولكن ليس في العالم على ما أظن أهم منها. اقطع ذاك السلك، أوقف العمل على تلك الربية، أسكت المائة آلة التي تدندن ليل نهار هناك، فتعود البحار إلى ظلمها القديم واستبدادها في المسافات، وتمسي قارات العالم القديم كلها، آسيا وأوروبا وإفريقيا وأستراليا، وكل منها في عزلة الجزر أو الجبال، لا صلة بينها غير تلك التي يحملها الرسول أو البخار .

أجل، إن شركة التلغراف في عدن لإحدى أيدي المدينة والعمران .

وهناك في تلك الأهرام والركام، على شاطئ البحر يد سوداء ولكنها في العمران بيضاء، هي يد الفحم والبخار. وفوقها وفوق المدينة نور وهاج ينير الميناء ليلا، ويدير حركة البواخر والمراكب بأنواره الملونة. هو ذا ثالوث عدن المادي . عرش البرق على هذه الرابية، وعرش النور على جارتها، وعرش البخار على الشاطئ فوق ركام الفحم العالية. إن فيها كلها حياة يكبر الغربيون أسبابها ولا يزدريها باطناً الشرقيون. وكيف يزدرونها وهي في بلادهم تحيي التجارة والبحارة ليطفأ نور تلك المنارة، منارة عدن، فتصطدم وتغرق المراكب في البحر، لتقفل أبواب شركات الفحم وتبطل حركة البواخر بين الشرق والغرب، وتنقطع إذ ذاك هذه الصلة الحديثة بين القارات كلها .

قلت إن الأمن والنظام في عدن ركنان ثابتان، ولا شك أن البريطانيين قد بذلوا في سبيلها قسطاً من القوة جسمياً، ومثله من السياسة والدهاء، ثم بتضحيات من مال ورجال ليس أكرم منهم فيها. بيد أن احتلالهم عدن واستيلاءهم على النواحي المجاورة لها لا يخلوان من الحيف والخداع .

قد علموا عند احتلالهم عدن بأنه يجب لحمايتها جيش كبير يقيم فيها .

ولكن إدارة شركة الهند يومئد فضلت تلك الخطة التي تقدم الكلام عليها. ثم عندما تسلمت الحكومة البريطانية زمام الأمور في الهند، استخدمت بعض القوة في تأييد مركزها في عدن، ورأت أنها تحتاج إلى قوات بحرية وبرية ترابط فيها. وقد تعجز مع ذلك عن الحماية إذا لم يكن لعدن منطقة كالدرع تصونها من تعديات العرب الذين يحيقون بها من جهات ثلاث من الشرق والغرب والشمال، ويحاربون كالقرود، ويعتصمون بالجبال. فاتخذت لذلك سياسة لين تدعمه الشدة، وباشرت المفاوضات، وابتاعت من الأراضي ما لم تستطع الاستيلاء عليه بالسياسة ولم تشأ أخذه بالقوة .فتم لعدن الدرع الذي تحتاجه وهو خط يمتد من الغدير على البحر غرباً إلى دار الأمير شمالاً، ومنها شرقاً بشمال إلى أم العُمُد بحراً. ثم أقامت في هذه المنطقة البريطانية الاستحقامات العسكرية، ونقلت إليها الجنود من الهند، وظلت مع ذلك في خطر دائم من العرب المحيقين بها من الصبيحة والحواشب واليوافع وغيرهم.

فما العمل إذن؟ قد يكلفنا الدفاع عن عدن آلاف الجنيهات يومياً إذا فرضنا أنه يتعين علينا أن نقيم فيها دائماً عشرة آلاف جندي. وقد يكلفنا الدفاع عن المنطقة التي ظنناها درعاً منيعاً آلاف أخر .ولكني أقف عند حد في النفقات لا يتجاوز إلا القليل من هذه القيمة، كل يوم، وأفترض أن الحكومة البريطانية تستطيع بذلك أن تدوخ العربان وتؤدبهم، وتستولي على بلادهم فتدخلها في منطقة الاحتلال. ولكنها تضطر عندئذ أن تضاعف قواتها العسكرية، فتضاعف النفقات، لتدفع عن هذه المقاطعات غارات عرب الجبال من زيود وشوافع شرقاً شمالاً. النتيجة: أننا كلما توغلنا في اليمن زادت النفقات والأخطار. فالولاء إذن خير من العداء، على أن لابد لنا من قوة نرهب بها أولاً من نبغي ولاءه. فإذا كسرنا هذا الأمير، ونكلنا بذاك الشيخ، ثم صافحنا ووالينا وبذلنا المال ومشاهرات، كان لنا من الصداقة والإذعان ما نريد».

عدن في عام 1923م

عن هذه الفترة من تاريخ عذن يذكر الضابط البريطاني مارولدف. يعقوب. ك .س. آي، في كتابه «ملوك شبه الجزيرة العربية»، بأن عدن هي حسناء الشرق غير المعترف بها، أما قضية تطور عدن وازدهارها سوف تصبح قريبة إذا تغيرت السلطة الحاكمة، غير أنه يرى في هذا الجانب بأن حكومة الهند والتجار الهنود ثابتون وأسسهم راسخة إلى الحد الذي يجعلهم ينظرون بغير ارتياح إلى الرؤية التي ترى بتطور عدن وتحويلها عما كانت عليه إلى وظيفة أخرى، وهذا الموضوع ظل في دائرة النقاش.

عندما افتتحت قناة السويس في عام 1869م أصبح لعدن أهمية قصوى تتخطى جميع الحدود ولا يستطيع غيرها أن يكون متفوقاً، وكانت عدن في الماضي مستودعاً لتوزيع السلع والبضائع منذ أيام الفراعنة حتى عهد الدولة الرسولية، التي امتدت فترة حكمها من الأعوام 1232م حتى 1441م.

ويقول يعقوب في كتابه:«إن عدن كتاب مختوم للسائح، وفيها مخلفات أثرية وبقايا مدفونة للكثيرين من الضباط الشبان، الذين خطوا بدمائهم تاريخ عدن المبكر. إنهم يضطجعون اليوم في قبورهم متوسدين الثرى، وما عليك إلا أن تزور أقدم قبورهم في كريتر، وهذه المقبرة هي التي تقع على مقربة من الطريق الرئيسية التي تعبرها سيارات الأجرة إياباً وذهاباً، وهي مزدحمة بالسائحين أو الوافدين، وجميعهم يكونون غير مكترثين بالأبطال الذين وهبوا حياتهم من أجل الاستيلاء على عدن، وبذلك ضمنوا ضمها إلى التاج البريطاني. إنهم الرواد الأوائل الذين فعلوا المستطاع وحققوا المحتمل، كالسلام والأمن والرخاء والازدهار الاقتصادي، كما نشاهد بعضاً منه اليوم.

ومع هذا فإن نصباً تذكرياً آخر يقع على مقربة من المكان، ولقد أقيم هذا النصب في مواجهة القسم الرابع من حرس الفوج البريطاني تخليداً وإحياءً لذكرى أولئك الذين استولوا على عدن، أو بعبارة أخرى لأولئك الذين أسروا عدن.

وكل تلك المساحة من أرض الموتى تبدو مختبئة يتحاشاها الناس أو يبتعدون عنها على حد سواء كالقصص الأسطورية المروية أو المنقولة عن القدماء، وهي التي يقال عنها بأن من يقرأها ينزلق أو يقضي نحبه، والمسافرون السائحون أو (الملعونون - المهربون) - وهذا هو الاسم الذي يطلقه السائقون الصوماليون على البريطانيين الناطقين بمثل هذه الألفاط- يدخلون إلى العربات الواقعة على رصيف أمير ويلز، حيث تفرغ القوارب عنده حمولتها البشرية ثم يأمرون سائقي المركبات بالتحرك إلى الصهاريج».

ومما يذكر عن معالم عدن التي كانت موجودة في تلك الفترة فندق فكتوريا الذي شيد في عام 1847م بمبلغ يزيد عن 20 ألف روبية، وقد بني تكريماً لملكة بريطانيا وصاحب هذا العمل هو السيد صوريجي قواسجي وهو من أصل فارسي، وكانت كل غرفة بالفندق يوجد بها حمام خاص وبمرشة اغتسال وعدة وسائل للراحة، وكانت لديه رغبة في إقامة ثلاث حجرات أو قاعات تشيد بالآجر أو الحجارة لها حوائط وجدران من الصخر ومساحة كل واحدة منفردة 15×20 قدماً ويصل الارتفاع إلى 13 قدماً، وقد أقيمت مبان للصيادلة الإنجليز ومخازن للكيميائين في التواهي وعدن. وفي عام 1899م افتتح منتزه جوب الذي كانت له شهرة واسعة في ذلك الزمان من قبل الجنرال السير اومور كريف، الذي شغل هذا المنصب في عدن من عام 1899 حتى 1901م، وكان يهود عدن يجتمعون بشكل كبير فيه بعد غروب الشمس في كل سبت، أما المسلمون فكانوا يؤدون فيه صلاة المغرب .

وكانت ملاعب عدن وميادينها الرياضية مصانة بشكل جيد، والفضل في ذلك يرجع إلى خطاب ملك بريطانيا جورج الخامس ملك بريطانيا وأمبراطور الهند (1910-1936م) الذي زار عدن عام 1911م، وقد بلغ عدد سكان عدن في عام 1923م 50 ألف شخص، وكان قد خطط لجعل خور مكسر مكاناً لإقامة معسكر جديد بديلاً عن القديم الذي وجد في عدن.

المراجع

-1 كتاب ملوك العرب- أمين الريحاني.

دار الجيل، بيروت، الطبعة الثامنة دون تاريخ.

-2 حصر وثائق أرشيف القنصليات الفرنسية في اليمن

عدن (1858-1942) الحديدة (-1880 1914م)

آن سوفي كراس

المركز الوطني للأرشيف- صنعاء

المعهد الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية بصنعاء، الطبعة الأولى 2007م.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى