نشوء الأغنية اللحجية من أواخر القرن الـ19 حتى نهاية القرن الـ20

> «الأيام» فريد محسن علي:

> اشتهرت مدينة لحج (الحوطة المحروسة) قبل التقسيم الجغرافي الجديد كغيرها من المناطق اليمنية برتم إيقاعي ولون غنائي متميز وفريد، ولاشك أن هذا التميز لم يأت من فراغ وإنما استمدت موسيقاه وإيقاعاته من الألوان الغنائية اليمنية الموجودة في شتى المناطق اليمنية السهلية والجبلية والصحراوية والساحلية، إضافة إلى الموروث الشعبي من أهازيج وزوامل ودندنة ورقصات وإيقاعات توارثها ونقلها أبناء هذه المنطقة جيلا بعد جيل. وقد كتب الكثير من الأدباء والفنانين عن اللون الغنائي اللحجي منهم الفنان الراحل الأستاذ محسن عبدالكريم عطا عازف القانون ومدير دائرة الموسيقى بمكتب ثقافة لحج قبل رحيله وهو ابن أخ الأستاذ الفنان حسن عطا شفاه الله وأطال في عمره، حيث أعد دراسة غنية عن نشوء الأغنية اللحجية ومراحل تطورها من أواخر القرن التاسع عشر حتى نهاية القرن (العشرين)، وهي الدراسة التي احتفظت بها إحدى بناته (يسرى)، وتفضلت بإعطائي إياها لنشرها وتعريف القارئ بأهميتها وماتضمنته من جوانب جوهرية تتعلق بالأغنية اللحجية.

ومما ورد في الدراسة أنه مع مرور الزمن شكل التمازج والتفاعل والإضافة والتهجين لما هو موجود وما أضيف إليه من إبداعات وابتكارات واجتهادات واستعداد فطري عاملا مساعدا في بلورة وتجسيد لون غنائي جديد يحمل سمات لهوية خاصة وعامة في آن واحد ألا وهو اللون الغنائي اللحجي اليمني، ولهذا نجد أن الأغنية اللحجية أصبح لها شأن وحضور في كل المحافل الداخلية والخارجية وسريعة الانتشار والقبول في كل أرجاء اليمن.

ماقبل القمندان

صنفت الأغنية اللحجية إلى ثلاث مراحل، وهي المرحلة الأولى ماقبل القمندان مرورا بالمدرسة القمندانية إلى نهاية الأربعينات من القرن العشرين، والمرحلة الثانية ازدهار الأغنية اللحجية في منتصف الخمسينات، حتى نهاية فترة الستينات، أما المرحلة الثالثة فقد تميزت بانتشار الأغنية في بداية السبعينات، حتى نهاية القرن العشرين.. فكل مرحلة من هذه المراحل تميزت بخصوصية معينة، وقد استعرضها الراحل محسن عطا كالآتي:

المرحلة الأولى: البداية ماقبل القمندان: وكانت منطقة لحج والقاطنون فيها يتعاملون مع الأغنية عن طريق الرقصات الشعبية والأهازيج والزوامل والدندنة مصاحبة لذلك بعض الآلات الإيقاعية والنغمة مثل الهاجر والكابر والرداد والمراويس والطاسة والمزمار والمرقع والطار والخلول والعود المحلي ذي الأوتار الأربعة (القمبوس)، وفي أواخر القرن التاسع عشر بدأت تتشكل ملامح اللون الغنائي اللحجي من خلال الأعمال التي صاغ كلماتها وألحانها الشاعر والملحن المغني المبتكر فضل ماطر باجبل (1333هـ - 1915م) في أغنية (يامرحبا بالهاشمي) و(يهناك طيب المحبة ياورش يهناك) و(ألا ياطير كف النياح)، كما قام بتأليف النص الغنائي على إيقاعات لبعض الرقصات الشعبية، مثل على إيقاع رقصة الدحيف (الدحفة) في أغنية (قال بوسعدان) وعلى رقصة الدمندم في أغنية (شُراح) التي استوحاها من هذا التراث المتراكم، وزامله المغني بن درينة.. وفي هذه الفترة عاصرهم الفنان هادي سبيت النوبي (نزح من نوبة مصر إلى الهند ومن ثم إلى لحج) مطرب لحج الكبير الذي حاول أن يكرس اجتهاده بتعلم العزف على آلة العود المحلي ذي الأوتار الأربعة (القمبوس) حتى أصبح بارعا في تأدية اللون الغنائي الصنعاني السائد في تلك الفترة، إضافة إلى اللون الغنائي الجديد (اللون اللحجي) الذي بدأت ملامحه تتشكل.

ندوة الطرب

وفي الربع الأول من القرن العشرين أقدم الأمير أحمد فضل بن علي القمندان (باعث النهضة الفنية الغنائية في لحج) على تأسيس أول منتدى للأغنية وأطلق عليه (ندوة الطرب) ضم كلا من الفنانين فضل محمد اللحجي ومسعد بن أحمد حسين وفضل وحسن طفش وهادي سعد سالم وأحمد صالح علي وبعض الشعراء والملحنين أمثال الأستاذ حسن أفندي وصالح الفقية وصالح سعد الأمير ومحسن حسن إسماعيل وأحمد باهدى والمصينعي وهادي سبيت النوبي.

كما أنشأ الفرقة الموسيقية النحاسية، وضمت كلا من عبدالله محمد سعيد البان وناصر غرامة وصالح عيسى وحسن سالم وشاكر ومحسن عبدالله صالح وحيدرة برقش، ومن خلال هذا المنتدى انطلق القمندان جاهدا ومكافحا في سبيل إخراج الأغنية اليمنية (ذات اللون اللحجي) من محيطها المحلي، وببروزها احتلت مكانا مرموقا في عالم الغناء اليمني والعربي، وبهذا تفوق القمندان في هذا المجال نظرا لعدة عوامل منها، دوره ومكانته في السلطة الحاكمة باعتباره الرجل الثاني في السلطنة، وتلقي تعليمه على أيدي معلمي وأعلام ذلك الزمان، حتى أصبح ذا ثقافة شاملة واطلاع واسع، إلى جانب سعة علمه ومعارفه وبساطته وتعامله مع عامة الناس وميوله الأدبية والفنية.

ازدهار الأغنية اللحجية

تناول الراحل محسن عطا في دراسته المقدمات التي هيأت المناخ لنقلة نوعية جديدة تطويرية في مسار الأغنية اللحجية مابعد فترة القمندان، وهي النهضة التعليمية والثقافية والإعلامية في بداية الخمسينات التي ساعدت في ظهور رغبة من المثقفين والمبدعين والموسيقيين بالفنون وانتشار دور العرض وعرض الأفلام المصرية والهندية، حيث أتاحت اكتساب معارف جديدة، وهناك المخزون التراثي، كل هذه المؤشرات أفسحت المجال لنخبة من المبدعين في النصف الثاني من الخمسينات بتأسيس الندوات الموسيقية، وكان من أبرز دعاتها وروادها الشاعر والملحن الأستاذ عبدالله هادي سبيت والفنان فضل محمد اللحجي (أحد تلامذة القمندان) والأستاذ الملحن والفنان محمد سعد الصنعاني، والشاعر والملحن عبدالحميد عبدالكريم عبدالله، والعازف والملحن الأستاذ صلاح ناصر كرد، والعازف والملحن الأستاذ محسن بن أحمد مهدي.. وكانت حصيلة تنافس الندوات الموسيقية إفراز مجموعة من الأعمال الغنائية العاطفية الرائعة والجميلة بالإضافة إلى ظهور البث الإذاعي (إذاعة عدن في عام 1954م) التي من خلالها تم تسجيل بعض الأعمال الغنائية الجديدة بأصوات غنائية جديدة كالفنانين محمد صالح حمدون، والفنان حسن عطا، ومهدي درويش، وعبدالكريم توفيق، ومحمد عوض شاكر، وعلي سعيد العودي، ومحمد رزق، وفيصل علوي، ومحمد ناصر، إلى جانب إحياء الحفلات الموسيقية الساهرة في عدن والتواهي والشيخ عثمان، واستحداث قوالب فنية جديدة في الأعمال الغنائية كالديالوج والمنلوج والأناشيد الحماسية وظهور البث التلفزيوني في عدن عام 1964م وتقديم السهرات الغنائية المباشرة.

الأغنية اللحجية في بداية الستينات

أصبح اللون اللحجي يمثل مكانة مرموقة وأكثر انتشارا عن غيره من الألوان الغنائية، فصارت الأغنية اللحجية أكثر تذوقا ومتابعة من قبل المهتمين بالفن الغنائي في العديد من المناطق اليمنية وحتى البلدان العربية، من خلال مشاركة الفنانين والفرق الفنية في المهرجانات المحلية التي تقيمها الدولة من خلال المشاركة في المهرجانات الخارجية، وتقديم السهرات الغنائية في تلفزيون عدن والإذاعة، حيث تم تسجيل مجموعة من الأعمال الغنائية القمندانية التي قامت بتنفيدها فرقة الحوطة الموسيقية وهي: (ليتني ياحبيبي) غناها الفنان فيصل علوي، و(مطر نيسان) سعودي أحمد صالح، و(غزلان في الوادي) سعودي أحمد صالح، و(حالي ياعنب رازقي) مهدي درويش، و(ذنوب سيدي ذنوب) عبدالكريم توفيق، وأسهم في وضع المقدمات الموسيقية والتوزيع الفنان هادي سعد شميلة وسعودي أحمد صالح وفيصل علوي.. إلى جانب سفر بعض الفنانين الأفراد إلى الخارج أمثال أحمد يوسف الزبيدي والملحن محمود علي السلامي ويسلم حسن صالح وفيصل علوي وفضل ميزر، وتسجيل أعمال غنائية في القنوات التلفزيونية والإذاعية العربية. وخلص الباحث محسن عطا في دراسته إلى أن ما استخدم من إيقاعات شعبية ومقامات موسيقية في الأعمال الغنائية ماهي إلا من إيقاعات ومقامات موسيقية كثيرة لم تستخدم حتى الآن، وبعضها نادرا ماتستخدم.

إن ما استعرض في هذه الدراسة في مضمار مراحل تطور الأغنية اللحجية يعطي صورة عن خصوصية هذه الأرض الطيبة والمنطقة العريقة والمستوى الذي وصل إليه أبناء منطقة لحج من الرقي والثقافة والمعاصرة.. ويمتلكون قدرات ومهارات في شتى المجالات، واستطاعوا من خلال ذلك أن يصلوا بهذا اللون الغائي إلى حيز الوجود.

وفي ختام الدراسة توجه الفنان الراحل محسن عطا بالدعوة إلى المهتمين والمنشغلين في الحقل الفني بأن يسعوا جاهدين بالبحث والتدوين والكتابة فيما يهم التراث الأدبي الفني، حتى يكون مرجعا في متناول كل باحث يهمه التاريخ الأدبي والفني لهذه المنطقة العريقة (لحج الساحرة).

ومات محسن عطا دون أن يرى ملخص دراسته وهي تنشر في صحيفة «الأيام»، ومات محسن عطا وسط هذا الزحام والركود والنسيان، غادر (أبو برهان) وهو يتوسل الجهات المعنية لمساعدته في العلاج، عاش صامتا عزيز النفس، ورحل بصمت وتوارى عن دنيانا، ولانعي ولاتعزية ولا رثاء.. إنه زمن النكران والجحود!!.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى