أقاصيص:باقة جماليات رموشية ..«لكل شعراء الزمن السبعيني الجميل»

> «الأيام» ميفع عبدالرحمن:

> جمال.. مبارك: عدنيان بامتياز مع مرتبة الشرف ..من الساحل الذهبي يأتي جمال إلى المدينة البيضاء حيث الشخص والمعنى الأنقى في بوتقة روحه.. فالشخص مبارك والمعنى اتحادهما.

يأتي جمال ليوم واحد، وهو اليوم الذي يتوسط شَرَك الأسبوع العدني الطارئ مُذ فك الاشتراكيون ارتباطهم بعدن، قبل حوالى العقدين.

يأتي جمال إلى المدينة البيضاء بعد الظهر ويغادرها مساءً، قبيل توقف حركة الباصات بين خورمكسر والتواهي.

يأتي جمال ليضحك قليلاً ويتكلم أقل، كيما يكتب ما تيسر له من كيمياء، اخضرار واخضلال قاماته الثلاثة: قلبه، قريحته وقلمه.

فإذا أقبل - بمعرفة المبارك - مع المساء ما تيسر مما يبهج قلوب أهل المعنى من دموع ثمرات النخيل والأعناب، أضاء وجه جمال غِبَّ جُبِّ كروب أسرته الكبيرة وكفافها بالكادر من راتبه الضئيل. لأنه لم يكن ليخطر في باله أن زمناً سيأتي.. سيفك فيه اشتراكيو عدن ارتباطهم بعاصمة أحلامهم وهواجسهم، فيفقد هو وأسرته- ومئات الألوف أمثالها- ارتباط آية رب هذا البيت «الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف» بهم.

وإذ يضيء وجه الشاعر ويُحلّق بذاته طالعاً - لسويعات - من غِبِّ جُبِّ ضنكه، يطلق مرحه وضحكته «العاهرة»- كما في ودادٍ يداعبه بها زميله بن ناصر. لكنها الضحكة التي تتمايل طرباً لها رموش كل سواحل المدينة الذهبية، من (ساحل أبين) شرقاً- إلى (عمران) - غرباً - إلى (معاشيق)- جنوباً.

*****

عندما يكون جيب الرموش متسخاً

فور اتفاقنا الأربعة على تحقيق توقنا المشترك بأن «نجلس مع بعض» في غرفتنا - الرموش وأنا - في الفندق، وبعد أن حاول سبيع إلهاءنا بتناول التين الشوكي من بائع متجول بعربة خشبية، سارع إلى الانفراد بجبران. لكن الرموش سرعان ما التقط أداء سبيع وذهب رأساً إلى مغزاه الذي لا ثاني له، ومنه بادر دون أدنى تردد وبعفويته المجبول عليها، مخاطباً سبيع وجبران:

- ياجماعة أنتم ضيوفي اليوم.

لم أزعل لأنه تجاهل جواري له في الغرفة وفي تلك اللحظة - عند عربة (البَلَس).

وكنا للتو قد اتسخ جيبانا، الاثنين معاً، ببدل مواصلاتنا - على الباص- من عدن ومبلغ عشرة ألف ملكي يمني - قاطع مقطوع- لسكن الواحد منا، مدة خمسة أيام، بالفندق في صنعاء، لحضور أحد المؤتمرات الأقل من القليل بين تلك الثقوب (الاستراتيجية) السوداء - المسمّات مؤتمرات - تفقسها العاصمة كبعوضة خرافية، أو خائلية/ افتراضية/ على مدار الأسبوع، طيلة العام الواحد، بميزانيات (فانطازية) لا يأتيها العقل- لأنه سيغدو باطلاً - من بين يديها ولا من خلفها.. فهي صورة للمقدس على وجه.. الأرض اليمنية بعد توحيدها الرهيب في عجينة البارود والدم، قبل عقد ونصف العقد.

- أحسن.. نفترق.. المبلغ.

صادر جبران على الرموش، ضارباً بعَرْضه العفوية عَرْض كبريائه الطبيعي، هو: جبران.

يومها - وكان الوقت ظهراً، في عز الربيع الصنعائي، قبل ثلاثة أعوام - كان سعر زجاجة الدموع- المهربة- التي قليل منها يبهج القلب، يساوي نصف المبلغ - القاطع المقطوع - لسكننا نحن الهلام الوافد إلى العاصمة الـ (أورجينال) ببيادتها المهترئة وعصى مارشاليتها مكسورة الناموس.

وإذ هممت بلوي ذراعي اليمنى إلى الجيب الخلفي لبنطلوني، عاجلني الرموش بنبرته التي لا تقبل القسمة على اثنين:

- أصبر عندي أنا برضه هذي المره.

فرددت عليه في استياء:

- مرتين اليوم تقول لي هكذا. الأولى في المكتبة والثانية في الكافتيريا وهذه الثالثة. أنا كمان معي فلوس مثلك! وأنت عليك التزامات كبيرة وكثيرة .

- ما عليش ياراجل ! جيبي وجيبك واحد.

فما أن جربت مبادلته الإفحام بالإفحام:

- حلوا ! حلو! يعني جيبنا....

حتى قاطعني بنبرته المعهودة، غير المُسْتَفزّة، وملامح وجهه توشك تقارب الغضب، كأني أكاد أخطئ في حقه:

- لا نضيعش الوقت ! الشباب منتظرين.

ثم زاد، فأضاف ورقة نقدية فئة (500) ملكي يمني - الطبعة الثانية/ النيلي - لزوم (....).

*****

جمال الرموش.. جبينه لازورد لأيامنا

ينام عنا، فينام إثره آخر نهارنا.. الطويل.

يصحو لنا، فيصحو إثره آخر ليلنا.. القـصير.

تُقْبل علينا قصيدته، فتُقبل إثرها ساعة أصيلنا.. الفارقة.

لنودع إثرها نهارنا القصير.. المضطرب.

ونستقبل ليلنا الطويل.. الصلف .

نودع ونستقبل ولا شيء آخر غير موتنا اليومي البطيء..

جيلاً بعد جيل..

جيلاً.. بعد.. جيل..

جيلاً..

بعد..

جيل..

مُذْ تفرقت أيدي سبأ- قبل زهاء ثلاثين قرناً- في سيل العَرِم، وإلى أن تكأكأت قبائلهم على عدن - قبل عقد ونصف العقد - في عجين الدم والبارود المهيأ للانفجار.

عدن - فبراير 2008م .

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى