مصفوع

> «الأيام» مختار مقطري:

> صفعني عبدالقادر في وجهي الصفعة الثانية، لكن صالح القُعر قال لي بهدوء: «معليش .. خليك أنت الكبير».

وأبي صفعني في وجهي مرتين .. المرة الأولى عندما حسبني أهاوز بنت الجيران، كنت أطل على الحافة من نافذة بيتنا التي لا تمنع عنه الغبار والبعوض، وفي يدي ورقة، فشلت في أن أرسم فيها تفاحة ..كلما حاولت أن أرسم تفاحة تطلع قلب وكلما حاولت أن أرسم قلباً يطلع تفاحة .. سقطت من يدي الورقة فالتقطتها بنت الجيران، وهي بثياب المدرسة عائدة إلى البيت، وأبي وهو خارج من المسجد، رأى الورقة تسقط من يدي، ورأى بنت الجيران تلتقطها وتنظر فيها وترميها بلامبالاة، ومن شدة غضبه على عرض بنت الجيران المهتوك، لم ينتبه إلى أني ابن اثنتي عشرة سنة، وأنها تكبرني بعامين، صفعته القوية أضاعت بصري لحظتين، وجمدت الدم في قمة رأسي لحظة، وأدمت أنفي أسبوعاً كاملاً، لكنه بعد أن أقسمت له أني بريء وأن شرفي مصون وأن عذريتي محفوظة، لم يعتذر لي ولم يطيب خاطري ولم يسمح لي أن أتغيب عن المدرسة في ذلك اليوم، واكتفى بصب لعناته على الشيطان الرجيم مستغفرا من بعض الظن .. في العصر صفعني مدرس الرسم في وجهي لأني رسمت قلباً ولم أرسم تفاحة كما أراد .

صفعة عبدالقادر تذكرني بصفعة أبي الثانية لما فشلت في الابتدائية.. شرم مشفري الأعلى وتورم أنفي وتلخلخ لي ضرسان.. الفرق بينهما أن صفعة عبدالقادر لم تسبب لي إغماء، فلماذا يقول صالح القعر : معليش .. خليك أنت الكبير ؟! لكن صفعة أبي أدخلتني عشر دقائق في حالة إغماء، ومات هو في اليوم التالي فصفعتني أمي للمرة الأولى لأني تسببت في موته، ثم صفعتني مرات كثيرة .. ترسلني لأشتري خضرة مجموع بشلن لأعود بها ناقصة البامية .. فتصفعني .. ترسلني لأشتري سمن زيلعي بباولة لأعود لها بسمن شجري .. فتصفعني .. ترسلني لأشتري حليب ديتش بيبي بعانتين لأعود بحليب كرنيشن .. فتصفعني .. واستمرت تصفعني إلى أن ماتت.. لكن صفعاتها لم تكن تؤلمني كثيراً ولا تدمي أنفي ولا تورم مشفري، لأن يدها لم تكن بحجم يد أبي أو كيد عبدالقادر، ولم تكن ذراعها قوية كذراع أخي منصور الذي صفعني .. كم؟! خمس مرات ..؟ عشر مرات..؟ والله مش ذاكر كم صفعني أخي منصور لكنني لن أنسى لماذا صفعني في المرة الأولى .. ضبطته في الغرفة العليا مع حميد ابن الدوبي يدخنان في السرير.. صفعني لكي أخاف ولا أفضحه مع أني لم أنوِ أن أفضحه لأني يومها كنت قد أكملت عامي الرابع عشر وبللت سروالي وأنا نائم أكثر من مرة، وكتبت لبنت الجيران ثلاث رسائل لم أحاول أن أسلمها منها غير الرسالة الثالثة بعد أشهر من تلميحاتي الهبلة لها بنظراتي وابتساماتي ووقوفي في الركن لساعات حتى تهتز ركبتاي من التعب، لكنها نظرت فيها ورمتها بلا اهتمام ثم صفعتني .. صفعة بنت الجيران أثرت في نفسي ومازالت هي الصفعة الوحيدة التي تؤثر في نفسي، بعدها صفعني كثيرون .. صفعني عمي أبو زوجتي لأن ابنته أم عيالي ذهبت إليه غاضبة لأني طلبت منها ألا تصفعني إذا كنت أنا وهي في ساعة غضب .. صفعني عاشق متعصب للمرشدي لأنه سمعني في مقهاية كاسترو أقول كلاماً لم يعجبه عن رأيي في إحدى أغنياته .. صفعني مشجع متهور لأنه سمعني وأنا خارج من ميدان الحبيشي أقول كلاماً لم يعجبه في لعب فريق التلال السيء أمام فريق الوحدة الذي فاز في المباراة بجدارة واستحقاق .. صفعني رجل عصبي المزاج لأنه سمعني أترحم على بريطانيا وأنا واقف أمام بوابة رصيف السياح في التواهي.. صفعني قبيلي يرتدي بذلة رائد عسكري لأني قلت رأياً لم يعجبه في الديمقراطية .

وفي المرة الأولى صفعني عبدالقادر في وجهي لأني قلت له :

- خليك عادل يا عبدالقادر فأنا مثلك صاحب عيال.

ودفعني صالح القعر بعيداً عنه وهو يقول لي بهدوء :

- معليش خليك أنت الكبير.

وفي المرة الثانية صفعني عبدالقادر في وجهي لأني قلت له :

- الباب اللي يجي منه ريح سدوه واستريح.

ودفعني صالح القعر بعيداً عنه وهو يقول لي بهدوء :

- معليش خليك أنت الكبير.

لكني في المرة الثالثة لن أدع صالح القعر يدفعني بعيداً عن عبدالقادر لـيقول لـي بهدوء :

- معليش خليك أنت الكبير.

صفعة بنت الجيران هي التي تؤثر في نفسي حتى اليوم وهي الوحيدة التي لن أرد لها الصفعة بالصفع.

نوفمبر 2007م

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى