> «الأيام» فضل علي القسمة:

تجربة الشاعر (محمد محمود الزبيري)رائدة في شعر النضال الوطني في أدبنا اليمني المعاصر، وهي غنية بمضامينها ونضالاتها ومشاعرها الصادقة المعبرة عن واقع اليمن، وتمثل مرحلة البعث والإحياء في شعرنا الحديث والمعاصر، ويعده أكثر النقاد «رائد المدرسة الكلاسيكية الجديدة في شعر اليمن الحديث والمعاصر».

ويرى الدكتور أحمد الهمداني:«أن الزبيريّ مؤسس الأدب اليمني المناضل، رائد الشعر المقاتل ، نجد في شعره توقد الثائر، واحتراق الشاعر في معبد الفن، لم يفرط في فنه مهما كان الموضوع الذي يتوخى إيصاله».(2) فقد تميزت هذه القصيدة الزبيرية بطابع خاص في شعر اليمن، واحتفظت بمقومات الفن، والوضوح في الرؤيا والتناول، وجسدت موقف الشاعر الوطني الملتزم لقضايا الأمة ونضالها وكفاحها في مقاومة قوى الظلم والطغيان، وعبرت بالكلمة الشعرية عن الدور العظيم الأثر في حياة الأمة واستنهاض الهمم والدعوة للنضال:

ناشدتك الإحساس يا أقلامُ

أتزلزل الدّنيا ونحن نيامُ؟

ياقوم هبوا للكفاح وناضلوا

إن المنام عن الذمام حرامُ

تستلمون إلى قساة ما لهم

خلق ولا شرع ولا أحكامُ (3)

لقد أصبحت موضوعات القصيدة الزبيرية جزءاً من حركة الشعر المعاصر في اليمن، ولأن الأدب اليمني جزء من الأدب العربي يتأثر باتجاهاته وتياراته ويتفاعل معه، فإنّ الشاعر الزبيري قد تأثر بهذه الموجة الفنية التي ملأت سماء الشعر العربي المعاصر «ورغم أن الزبيري كان أكثر انفتاحاً على الجديد إلاّ أنه كان أقلهم تأثراً بتلك المضامين الذاتية، إذ إنّ وضوح رؤيته الإصلاحية وارتباطه القوي بقضية اليمن الكبرى قد حماه من الوقوع في أسر مضامين الاغتراب والانزلاق في هموم الذات كما كان شأن الشعراء الرومانسيين». (4)

مثّل شعر الغربة والاغتراب في أدبنا اليمني المعاصر مادة خصبة وتراثاً أدبيا متميزاً، استطاع الشاعر من خلاله أن يجسد عذابات الإنسان ومعاناته في الغربة، فظهرت قصائد هذا اللون الوجداني نفثات من الحزن والأسى والكآبة في شعر جيل الشعراء الإحيائيين المجددين الروّاد الذين تأثروا بهذه الموجة الجديدة.

وقصائد الشاعر الزبيري (الحنين إلى الوطن، وحنين الطائر والبلبل، وأقدار النكبة، وإلى الشاعر علي محمد لقمان) تشكل لوناً جديداً في تجربة الشاعر وفي شعرنا المعاصر،وهي ذات ملامح رومانسية، وتمثل مرحلة جديدة ومتطورة في نتاجه الشعري تمكن من خلالها من تخطي الموروث الشعري وبعض مميزات المعجم الشعري القديم (الخطابية والتقريرية) التي تشيع في شعره، إلى التعبير الهامس والرمز الموحي واستخدام ألفاظ المعجم الرومانسي.. تأمل هذه الأبيات من قصيدة (الحنين إلى الوطن):

كشفت لي في غربتي سوءة

الدُّنيا ولاحت هنأتها لعياني

كلما نلت لذة أنذرتني

فتلفت خيفة من زماني

وإذا رمتُ بسمة لاح مرأى

وطني فاستفزني ونهاني

ليس في الأرض للغريب سوى

الدمع ولا في السماء غير الأماني (5)

هذه الغرية التي امتدت بالشاعر من مارس 1948م إلى سبتمبر 1962م كشفت له قبح الدنيا فتذبذبت نفسه بين نيل اللذة ورهبة الزمان، فتملكه اليأس من عطاء الأرض والسماء واستحال نيل الأماني لأنها صارت أبعد منالاً، والوصول إليها من الصعوبة بمكان، فذاق مرارة العيش فأنطق غربته بكائية القلب كما في هذه الأبيات:

لم تذق هدأة من النوم عيني

لم يجد هدنة من الهمّ بالي

لم أنل جرعة بعد كفاح

لم أسغ لقمة بغير نضال

لم أسر خطوة على الإرض إلاّ

كان فيها أحيولة لاعتقالي

ما أنا يادنيا حريصاً على البقيا

ولا جازعاً من أمر الرجال

قد ظلمتُ الخطوب جرياً ورائي

وحطمتُ النبال فوق النبال (6)

لقد ظل الزبيري في غربته في الباكستان يتوجس شبح الاعتقال والمطاردة من النظام الإمامي.. فعبر بهذه الأبيات من قصيدة (أقدار النكبة) وبنكهة رومانسية تقترب من قصيدة (حنين الطائر).. مع اختلاف في الإيقاع والأداء النفسي.

وإذا ما تأملنا قصيدة (حنين الطائر) نلمح تدفق وجدان الشاعر وحالات الوجد والهيام، ومعاني الرجاء الذي يشوبه القلق واليأس من المصير.. استمع إليه:

أمل غير متاح وفؤاد غير صاح

أنا طير حطم المقدور عشي وجناحي

ورماني في نثار من دموعي ونواحي

وحطام من بقايا وطن غير صحاح

ذهبت آهاتي السوداء أدراج الرّياح (7)

فالقصيدة من جيد شعر الزبيري ذي الطابع الوجداني ومن خلالها عبر الشاعر عن الجانب الواقعي والرمزي مستخدماً الطائر كرمز ومعادل موضوعي لحالة النفي والتشرد في الغربة فمأساة الطائر من تشرد وضياع واستباحة لوكره ما هي إلاّ صورة صادقة لمأساة الشاعر وتصوير أطوار حياة الطائر وفراقه لصغاره وتكدّر صفو حياته، هي واقع يعيشه الشاعر وهو بعيد عن وطنه، ذلك الواقع الذي لا يرى فيه إلا ظلاماً حالكاً.

وفي (البلبل) تشف وجداناً شعرياً ممتلئاً بتجربة الحياة، ونزعة حارة متوهجة.. وهذه ميزة الاتجاه الوجداني:

بعثت الصبابة يابلبل

كأنك خالقها الأول

غناؤك يملأ مجرى دمي

ويفعل في القلب ما يفعل

ترتل فن الهوى والصّبا

شجياً وإن كنت لا تفعل

وما الحب إلا جنون الحياة

وجانبها الغض المشكل (8)

هنا يتداخل عالم الطير (البلبل) وعالم الإنسان (الشاعر) فغناء الطائر، غناء الشاعر، ومن خلال الطائر (البلبل) يتغنى الشاعر بمحاسن الوطن إذ يقول:

غناؤك بالطبع لم تكترث

أضاعوا فنونك أو سجلوا

وتنشر وحدك ما أن تحس

بمن يحتفي بك أو يحفل

وتأبى التصنع بين الجموع

وإن صفقوا لك أو هللوا

وتبكي لفنك لا للخطوب

وإن كان فيهن ما يذهل

فبلبل الزبيري صورة حية لطبيعة اليمن الخلابة، فغناؤه احتفاءٌ بهذه الطبيعية الساحرة، فلا يكترث للخطوب والنكبات.. وهذا طبيعة الإنسان اليمني، تعود على الصبر والتجلد، ومواجهة الصعاب ومقاومة الأعداء.

وفي الشعر العربي المعاصر نجد صوراً كثيرة لهذه المشابهة، فهذا الشاعر (القروي) «رشيد سليم الخوري» يعبر عن نفسه من خلال البلبل:

بلبل الروض والجناح مبلبل

خافض الصوت ساكت متأمل

نبذته رياضه بتعلل

بحمانا عن الرياض وأمل

إلى قوله:

بلبل الروض قد أطلت السكوتا

عد فغرد ولا تخشَ ياطير ضرا

أمن البلبل الفصح فغنى

بعد أن كان ساكتاً واطمأنا

ولكم ساكت فصيح تمنى

لو يتيح الزمان كي يتغنى

ويناغي الأطيار نثراً وشعراً (9)

فبلبل «الخوري» صامت ساكت، ويصور بسكوته حالة الخضوع والخنوع التي عافها الشاعر أثناء فترة الاستعمار الأجنبي على وطنه.. أمّا بلبل «الزبيري» فيغني رغم الخطوب والنكبات بينما بلبل «الخوري» صامت لا يحرك ساكناً في ظل الخوف وإذا ما أمن ونعم بالاطمئنان والاستقرار شرع في الغناء والشدو.

وفي الأربعينات من القرن الماضي احتضنت (عدن) حركة المعارضة اليمنية ضد الإمامة، وكان في طليعتهم الشعراء والمثقفون الذين أشعلوا حساً وطنيا فامتد الشعور الوطني في أرجاء الساحة اليمنية.

وخلال هذه الفترة الزاهية أدبياً صدر للشاعر (علي محمد لقمان) ديوان (الوتر المغمور- 1944م) فكان بمثابة زلزال هزّ الحياة الأدبية في عدن وأعلن عن ميلاد مرحلة جديدة من التشكيل الشعري للقصيدة في شعر اليمن الحديث والمعاصر فاستقبلته الأوساط الأدبية بالفخر والاعتزاز، فرأى فيه الشاعر محمد محمود الزبيري تجسيداً حياً لظروف المرحلة الأدبية وصورة صادقة لمعاناة الشعراء في اليمن، فحيّ الديوان بأحد أجور جياده ذات الملمح الرومانسي:

وترُ الغرام يئن من صبواته

ويسجل النيران في آهاته

الدمع محترق على أنفاسه

والصوت مجروح على لهوائه

والمبدع الفنان يملو نايه

روحاً وينطقه بسحر لغاته

ويبث في العود الحياة فتنبري

أوتاره ملأى يإحساساته (10)

فتجلت في هذه القصيدة روعة التقنية الفنية، والخيال التعبيري الموحي واللفظ والعبارة الهامسة.

فهذه القصائد كلها تمثل صورة المنزع الوجداني لشعراء الجيل الجديد الذين تأثروا بالتيار الرومانسي وعبروا عن حالات القلق والاضطراب والخوف من المجهول، والحزن والشكوى والكآبة في شعرهم تعبيراً واضحاً عن معاناتهم في أوطانهم خلال حقبة تاريخية مظلمة.

كما أن الموقف الشعري المتماثل لعدد من شعراء النزعة الوجدانية المتأملة - ورثة الديوانيون والمهجريين والأيولليين- هو المسؤول عن هذا القدر من التشابه والتماثل والتقارب في الرؤية والتناول والمزاج ، فضلاً عن دلالة هذا الموقف على وحدة شعورية ووجدانية عاشها جيل من الشعراء العرب، إبان الأربعينيات من القرن الماضي، كانوا خلالها قياثر صادحة بالشجو والأسى والثورة والتمرد والقنوط والانكسار.

الهامش:

(1) د. المقالح: الشعر بين الرؤيا والتشكيل ص 208.

(2) د. الهمداني: الزبيري شاعر التغيير، ص 95.

(3، 10،8،7،6،5) دواوين الزبيري.

(4) د. المخلافي: الشعر الحديث في اليمن، ص 365.

(5) ديوان الخوري.