لإحياء الذكرى الأولى لرحيله ..قراءة في ديوان (على بعد ذئب) للشاعر الكبير محمد حسين هيثم

> «الأيام» متابعات:

> ذكر البغدادي في كتابه (قانون البلاغة) أن المختار من الشعر هو، القريب البعيد، الوحشي المستأنس، الدمث الوعث، البدوي الحضري، المجيب المتأبّي، الممتنع المتأنّي، وأن مذاهب العلماء في اختيار الشعر متباينة، وآراؤهم فيه متفاوتة، وأهواؤهم فيه مختلفة، فمنهم من لا يميل إلا إلى ما سهل وانقاد وذلّ على اللسان، ومنهم من يميل إلى ما انغلق معناه، وخفي غرض قائله فيه ومغزاه، ولم ينقد الا بعد طول فكر ونظر، وهم أصحاب المعاني.

وهذه النظرية أكدها النقد الحديث وحورها تحت مصطلح (النص المقروء، والنص المكتوب) الذي ينسب إلى (رولان بارت) ويقصد بالنص المقروء ما كتب بقصد توصيل رسالة محددة ودقيقة، ونقلها إلى قارئ سلبي. ويقصد بالنص المكتوب ما كتب حتى يستطيع القارئ في كل قراءة أن يكتبه وينتجه، وهو يقتضي تأويلاً مستمراً ومتغيراً عند كل قراءة.

وإذا نظرنا إلى ديوان الشاعر محمد حسين هيثم (على بعد ذئب) وهو آخر دواوينه، إذ يعبر عن نضج تجربته واكتمالها، وجدناه أكثر ملامسة لمصطلح (النص المكتوب)؛ فعناوين قصائده معبرة عن دلالات متعددة، وتأويلات مختلفة، لا تفسر برؤية واحدة أو بمعنى محدد، منها: (رجل يقرأ صحف اليوم ويقود مظاهرة الكيرم، بانتظار الملاك على الأرصفة، الحلاج، الجن، امرأة في الجدار، الذئب على التلة، على بعد ذئب، هولاكو، وصايا الذئب..) فضلاً عن ذلك تجد دلالات متعددة لهذه القصائد عند كل قراءة. فقد وجد الدكتور عبدالعزيز المقالح عند قراءته لديوان (على بعد ذئب) دلالة معبرة عن (الذئب) إذ قال:«والسؤال الذي قد تتولد عنه أسئلة كثيرة محيرة وملغزة هو: هل كان شاعرنا الكبير وهو يضع اللمسات الأخيرة لهذا العمل البديع يشعر أنه على بعد خطوات من الموت/ الذئب؟ وهل كان يتنبأ بدنو أجله أم كان مثل سائر البشر يتجاهل هذا الذئب الذي يرافقنا في الذهاب والإياب ويرانا دون أن نراه.. ولا أستبعد أن يكون الذئب هنا - كما سبقت الإشارة- رمزاً للموت».

واستدل على ذلك بقصيدة (الذئب على التلة):

وثمة هذا الذئب على التلةِ

عووووووووو عوووووووو

............

تلك منازلُ

خلف كثيبٍ أبيضَ ناءٍ

البدو على الطرقات

فرادي أو زُمُراً

لا مرساة لهم

لا ميناء لرعدهم القاحلِ

خطوتهم في الأبدِ

ولياليهم شاهقة النسيانِ

وأحلامهم على الطرقاتِ

ولا بدو

وبالنظر إلى ديوان الشاعر (على بعد ذئب) من خلال قراءة جديدة بدت لي رؤية أخرى عبر عنها الشاعر بكل ما يملك من أدوات موسيقية وصور شعرية ولغة مختارة، فالذئب رمز للغزو والإرهاب الغربي الذي بدأ يزحف ويكثف ضرباته على المسلمين وأوطانهم؛ فالذئب حيوان مفترس يوصف بالغدر والدهاء، وهذه صفات يتحلى بها كل مستعمر غاصب.

يقول هيثم في قصيدة:(على بعد ذئب):

كلنا عابر في القصيدةِ

نسأل عن قربنا

من مشانقَ مجدولةٍ من حبالٍ

السياسةِ

أو من خيوط الوعيدْ

.......

كلنا عابرٌ قربهم

فالغزاةُ هنا،

كلهم داخلٌ،

والبداوة فينا،

فمن جمرتين،

نقيم الممالكَ مملكةً إثر أخرى

ونرضع من ذئبةٍ

ثم نهوي إلى قصعة من ثريدْ

.......

كلنا عابر قربهم

لا نراهم

ولكنهم من سماءٍ ملونةٍ

يبدؤون الحكاية

أو يبدوون على بعد ذئبٍ

يبللُ أيامنا بالجنود

إن اختيار الشاعر للوزن الموسيقي (فاعلن) جاء ليخدم تجربته، فالوزن (فاعلن) نلمح منه شظايا صخب من خلال النغمة الموسيقية (فاعلن، فاعلن، فاعلن...). إذاً جاء هذا الوزن ليستنهض الأمة الإسلامية ويحركها من دائرة الجمود والانعطاف. كما وظف هذا الوزن في إطار القصيدة الجديدة (التفعيلة) ليخدم تجربته ويدعمها؛ فالقصيدة الجديدة تتميز بسعة النفس الشعري الذي لا ينقطع عند نقطة معينة، فامتداده يوحي بعظم التجربة وإيصالها إلى مسافات بعيدة، و يوحي بالاندفاع. وعلاوة على ما حققته الجملة الشعرية في ذلك، فقد كان لصوت (الواو) دلالة كبيرة؛ إذ أحدث عويلاً ودوياً وتخويفاً، غير أنه في الوقت ذاته كان يوحي بالعطف على الأمة الإسلامية من ذلكم الخطر العظيم الذي يحيطها ويداهمها.

وقد جاءت الصورة الشعرية معبرة عن تجربة الشاعر أحسن تعبير، فالصور:(كلنا عابر في القصيدة، ونرضع من ذئبة، ثم نهوي إلى قصعة من ثريد، على بعد ذئب، يبلل أيامنا بالجنود)، فكل هذه الصور تدل على الأوضاع العربية والإسلامية المتردية، فالصورتان (نرضع من ذئبة)، و(نهوي إلى قصعة من ثريد) كناية عن ضعفنا واعتمادنا على غيرنا في معيشتنا وحياتنا. كما نلمح في الصورة (ونهوي إلى قصعة من ثريد) قول الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم):«يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا أو من قلة نحن يومئذ يارسول الله، قال:أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء، كغثاء السيل..»، فالصور-كما سبقت الاشارة- كناية عن الضعف، وكذا توحي بما تنبأ به الرسول (صلى الله عليه وسلم) لهذه الأمة في زماننا هذا.

كذلك جاءت لغة الشعر معبرة عن ذلك الغرض الذي يسمه الشاعر وحمّله تجربته الشعرية؛ فالمفردات:(مشانق، البداوة، الذئب..) فلكل مفردة دلالة معبرة، فالمشانق: جاءت هذه المفردة بصيفة منتهى الجموع إيحاء بكثرة المشانق التي تنصب للمسلمين. ومفردة (البداوة): توحي بالأصل العربي الذي جبل على الكرم والسذاجة وعدم المبالاة بالأمور، وهي تشكل تغايراً وتضاداً لمفردة (الذئب) رمز الخيانة والغدر. وإلى جانب المفرده وظف الشاعر التركيب: (كلنا، وكلهم..) فكلنا: جاء ليلفت النظر ويؤكد بأن مخططات الأعداء، وإن بدأت ببعضنا إلا أنها تستهدفنا كلنا. والتركيب (كلهم): فيه دلالة على تماسك الأعداء واتفاقهم علينا.

ونلحظ أن كلاً من اللغة والصورة والموسيقى، قد تضافرت في نضج تجربة الشاعر واكتمالها؛ فإذا جاءت الصورة معبرة عن الضعف، واللغة معبرة عن العذاب، فإن الموسيقى كانت ثورة للخروج من تلك الحالة.

إن من خلال هذه القراءة، والقراءة السابقة، والقراءات اللاحقة نجد أن تجربة الشاعر عميقة تفتح مجالات واسعة للخيال، وتلقي بقارئها في عالم يتجول فيه ولا يستطيع أن يحيط به، فالديوان دال على نضوج التجربة، إذ يضع هيثم ضمن شعراء الكتابة (بالنص المكتوب) الذي يستحسنه النقاد المحدثون.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى