> «الأيام» خالد حسين اليماني:
الكتابة عن عدن كفعل زهرة البيكاريا، تجلي النظر في زمن نحتاج فيه إلى ثاقب نظر للبعيد القادم، نتبينه ونقرأ عبره صفحات الآتي القريب، إنها المدينة التي طهرت جسدها مياه سيل العرم في انسكابته الكبرى إلى المحيط، إنها المبتدأ والمنتهى، محط رحال القبائل للقاء الكسموبوليتيا، إنها مدينة اليمن العالمية التي شهدت ميلاد محمد حسين هيثم، أحد الكبار في الشعر اليمني الحديث، لقد كان محمد أبرز حكماء الجغرافيا العدنية، أحد عقلاء المساحة اليمنية وقلبها الشعري الكبير.
وكانت عدن ولاتزال ملحمته اللانهائية، البكائية الأبدية لفرح لوركا بالفضاء الأندلسي، فكانت فضاءه المشتهى الذي استأنسه رغم سبع حروب واقتتالات، فاقمت خصومة الرفاق، وباعدت بين المشتهى من آمالهم والمنتهى، وكان شاعرنا بداية ليقظة الدم!
إن نص عدن الشعري كان له وقع حديث القلب للقلب، وكأني أتلقاه من حيني في إحدى لقاءاتنا في شقته الصغيرة بشارع هائل، حينما كنا نتسامر مع لوركا وماركيز، والعالم اللاتيني الذي يشبهنا بمآسيه وبسحره الواقعي.. كنا نعرج فجأة لنستعرض ما صنعناه في عدن من شعارات وحرقناه من مراحل، فيما كان المكان يتململ من وطء تجاربنا.
لقد ذكرني النص بحذافير تلك السنوات التي قضيناها نحن أبناء الجيل الذي ولد من رحم الثورة، وترعرع في مسالكها، وصرخ بشعاراتها (لانبي خنفس ولا شارلستون، والجماهير تحمل البندقية) و(ياجماهير الجياع إن عجزنا عن لقاكم أو غرقنا في الضياع..!) ذلك الجيل الذي شارك في مبادرات الثورة الجماهيرية، وطالب بخفض معاشات أهله الشهرية!!
لقد ألح علي النص أن أختزل عناصره في تخطيط تشكيلي يجمعني إلى جانب هذه القامة الشعرية السامقة، فكما أن نص محمد حسين هيثم لم يسع لتاريخ ذاكرة المكان العدني، فإن تخطيطي لم يذهب بعيدا لرسم تفاصيله الحميمية..إنما هو هجس باللون لايرتقي لعظمة النص الهيثمي المحكم.. فإلى روح فقيد اليمن الكبير في ذكرى رحيله الثانية× ننشر قصيدته عدن:
بين هجس المدارات
في غرف الرعد
تحت الجسور
وفوق الرصيف المناوئ
خلف عواميد هذا الظلام القديم
رأيناك
كنت تقولين شيئا
وكنا نحاول شيئا
وكنا نعد الأصابع
كنا نفتش عن حجر أو بلاد
وانتظرناك
ها أنت تتشحين بأسماء من عرفوك
وصلوا على جمرة
واستظلوا بشاهدة
واهتدوا في الرماد
أنت لم تبدأي يقظة الدم بعد
ولن توقدي للأحبة شمس الضلوع
ولم تهجسي بالمدى المستعاد؟
×××
كنت في اللفح تأتين لاهثة
مصطفاة
وكنت تضيئين
وحدك كنت تضيئين
كنا نمر- نياما- عليك
نوقع أحلامنا عند بابك
ثم نمر- غماما- عليك
نجفف إيقاعنا حول صمتك
ثم نمر جنونا
فنكتب بحرا على راحتيك
نعدُّ السواتر رملية
ونعوذ بعينيك من عثرة
تصطفي حبة القلب
كيف تقولين أسماء من طامنوك وداروا ظلامك؟
كيف تدلين شوك المنافي عليهم؟
وكيف تقودين قاتلهم نحوهم؟
***
وتعودين
من كل موت تعودين
تياهة
مشتهاة
تشبين في كل منعطف داكن
ثم تنفلتين رياحا
رياحين تجهش بالصحو
أنت المدماة
ضاحكة الجرح تأتين
في غسق الكائنات
ومجروحة الحلم في النار
موطوءة بالنعاس
وموؤودة في الدم المستغيث
ارتقبنا هبوبك من جهة تستميت
ومن مستحيل يموت
وكنا تركناك مثخنة الروح
في شارع يابس
وانحدرنا إلى قمة في التخوم
وانكفأنا على رمح غربتنا المستديم
***
كنت تبكين
وحدك تبكين
كنت تقولين حشد جنونك
تصغين:
هل باح بالخيل هذا المدى؟
وردة ما تجيش الرياح به أم صدى؟
***
وانتظرناك ثانية
تحت نافذة
أشرعتها احتشاداتنا
ذات شمس
على بعد عشرين ألف ظلام
وسبع حروب
رأيناك
ما كنت وحدك
حولك سرب من الشهداء
نسمي بأسمائهم وقتنا المفتدى
ثم جئناك
أنت الأليفة كالمطر الموسمي
القريبة مثل سماء القرنفل
تنتشرين هنا
نجمة للسواحل
بحرا تواثب
مقهى تهب عليه اللغات
شوارع حافلة
بالتلكؤ بين الحروب
وأشرعة ما اهتدت أبدا
ثم تنهمرين على شجر الروح
ضاحكة الجرح
تيَّاهة
مشتهاة
ومثخنة بالندى
* نشرت في صحيفة (العرب) الأسبوعية اللندنية في 8 مارس 2008.
وكانت عدن ولاتزال ملحمته اللانهائية، البكائية الأبدية لفرح لوركا بالفضاء الأندلسي، فكانت فضاءه المشتهى الذي استأنسه رغم سبع حروب واقتتالات، فاقمت خصومة الرفاق، وباعدت بين المشتهى من آمالهم والمنتهى، وكان شاعرنا بداية ليقظة الدم!
إن نص عدن الشعري كان له وقع حديث القلب للقلب، وكأني أتلقاه من حيني في إحدى لقاءاتنا في شقته الصغيرة بشارع هائل، حينما كنا نتسامر مع لوركا وماركيز، والعالم اللاتيني الذي يشبهنا بمآسيه وبسحره الواقعي.. كنا نعرج فجأة لنستعرض ما صنعناه في عدن من شعارات وحرقناه من مراحل، فيما كان المكان يتململ من وطء تجاربنا.
لقد ذكرني النص بحذافير تلك السنوات التي قضيناها نحن أبناء الجيل الذي ولد من رحم الثورة، وترعرع في مسالكها، وصرخ بشعاراتها (لانبي خنفس ولا شارلستون، والجماهير تحمل البندقية) و(ياجماهير الجياع إن عجزنا عن لقاكم أو غرقنا في الضياع..!) ذلك الجيل الذي شارك في مبادرات الثورة الجماهيرية، وطالب بخفض معاشات أهله الشهرية!!
لقد ألح علي النص أن أختزل عناصره في تخطيط تشكيلي يجمعني إلى جانب هذه القامة الشعرية السامقة، فكما أن نص محمد حسين هيثم لم يسع لتاريخ ذاكرة المكان العدني، فإن تخطيطي لم يذهب بعيدا لرسم تفاصيله الحميمية..إنما هو هجس باللون لايرتقي لعظمة النص الهيثمي المحكم.. فإلى روح فقيد اليمن الكبير في ذكرى رحيله الثانية× ننشر قصيدته عدن:
بين هجس المدارات
في غرف الرعد
تحت الجسور
وفوق الرصيف المناوئ
خلف عواميد هذا الظلام القديم
رأيناك
كنت تقولين شيئا
وكنا نحاول شيئا
وكنا نعد الأصابع
كنا نفتش عن حجر أو بلاد
وانتظرناك
ها أنت تتشحين بأسماء من عرفوك
وصلوا على جمرة
واستظلوا بشاهدة
واهتدوا في الرماد
أنت لم تبدأي يقظة الدم بعد
ولن توقدي للأحبة شمس الضلوع
ولم تهجسي بالمدى المستعاد؟
×××
كنت في اللفح تأتين لاهثة
مصطفاة
وكنت تضيئين
وحدك كنت تضيئين
كنا نمر- نياما- عليك
نوقع أحلامنا عند بابك
ثم نمر- غماما- عليك
نجفف إيقاعنا حول صمتك
ثم نمر جنونا
فنكتب بحرا على راحتيك
نعدُّ السواتر رملية
ونعوذ بعينيك من عثرة
تصطفي حبة القلب
كيف تقولين أسماء من طامنوك وداروا ظلامك؟
كيف تدلين شوك المنافي عليهم؟
وكيف تقودين قاتلهم نحوهم؟
***
وتعودين
من كل موت تعودين
تياهة
مشتهاة
تشبين في كل منعطف داكن
ثم تنفلتين رياحا
رياحين تجهش بالصحو
أنت المدماة
ضاحكة الجرح تأتين
في غسق الكائنات
ومجروحة الحلم في النار
موطوءة بالنعاس
وموؤودة في الدم المستغيث
ارتقبنا هبوبك من جهة تستميت
ومن مستحيل يموت
وكنا تركناك مثخنة الروح
في شارع يابس
وانحدرنا إلى قمة في التخوم
وانكفأنا على رمح غربتنا المستديم
***
كنت تبكين
وحدك تبكين
كنت تقولين حشد جنونك
تصغين:
هل باح بالخيل هذا المدى؟
وردة ما تجيش الرياح به أم صدى؟
***
وانتظرناك ثانية
تحت نافذة
أشرعتها احتشاداتنا
ذات شمس
على بعد عشرين ألف ظلام
وسبع حروب
رأيناك
ما كنت وحدك
حولك سرب من الشهداء
نسمي بأسمائهم وقتنا المفتدى
ثم جئناك
أنت الأليفة كالمطر الموسمي
القريبة مثل سماء القرنفل
تنتشرين هنا
نجمة للسواحل
بحرا تواثب
مقهى تهب عليه اللغات
شوارع حافلة
بالتلكؤ بين الحروب
وأشرعة ما اهتدت أبدا
ثم تنهمرين على شجر الروح
ضاحكة الجرح
تيَّاهة
مشتهاة
ومثخنة بالندى
* نشرت في صحيفة (العرب) الأسبوعية اللندنية في 8 مارس 2008.