> «الأيام» محمد مرشد عقابي :

الطفلان عميد وربى أولاد المجني عليها خديجة يشيران الى موقع مقتل أمهما
أصداء الفراق الصعب
في تاريخ 2008/2/9م تحول منزل المرحوم الحاج سالم الجبيري ذلك المنزل المتواضع في منطقة عقان مديرية المسيمير تتحول إلى خلية عويل وإلى مزار لأصداء النحيب المهيب. فقد كتبت الأقدار نهاية مأساوية لابنته الوحيدة الباقية له على وجه الدنيا خديجة ربة الأسرة، ومحيية ومؤنسة ذلك المنزل. ومنذ يوم الفاجعة والحزن لايكاد يفارق هذا المنزل، فقد ذبلت الورود في وجوه أبنائها الأطفال وفرض التجهم نفسه، ليرسم على خد كل واحد من هؤلاء الأولاد شامة قهر وشامة عويل.. وشامة نحيب تتقطع لها أوتار القلوب حزناً وألماً. وعند زيارتي لمنزل الصغار المنكوبين كانت المصادفة التي تحمل في طياتها ملايين المعاني قيام الطفل عميد بالإمساك بيد شقيقته الصغيرة الجميلة ربى ليقتربا سوياً من صورة مبروزة في فناء المنزل الحقير.. لتحتقن عيونهما بالدموع المالحة ومعها تتصدع لحظات الذكرى العالقة في ذهنيهما لتنطلق من تلك الأعين الزائغة حرقة فراق الأم الحنون. كان الصغيران يذرفان دموعاً لا يعرف إلا هما معناها انحدرت تلك الدموع وكأنها شلالات على خديهما حاملة معها مدلولات المأساة الحقيقية.عميد يقول مخاطباً الصورة: أين أنت يا أمي. يدنومنه لحظتها العم عبده غالب (الأب الروحي) لهؤلاء الأطفال ليحتضنه برفق وحنان لتتفجر المقل داخل المنزل دموعا كالأنهار تصب في قلوب بريئة تحرقها الذكرى وتعتصرها الشكوى، وكأنها خناجر مغروسة في حناجر هؤلاء الأطفال. كان الطفل عميد ينطق كلمات قاسية لأنها تنبعث من أحشائه المشتعلة بنيران العويل، كانت مآقيه ساقية بكاء ترصد سيناريو الفراق الرهيب. كان الطفل عميد وشقيقته البريئة ربى قد تمددا على ذلك السرير الذي اعتادت الأم الاستلقاء عليه، توهم الصغيران النوم، لكن سرعان ما انهمرت الأدمع من عينيهما وهي تلاحظ الوسادة الخالية التي طالما اسندت رأس أغلى ما في الوجود أمهما الحنون. كانت الذكريات تجلد جسدي الصغيرين، فقد غادرت الأم وربة البيت والأسرة هذه الدنيا الفانية مخلفة أطفالاً دون سن الرشد في حالة بؤس وعذاب وكوابيس لا تنتهي.

أثر احدى الرصاصات التي اخترقت الباب وتظهر الفجوة
وسط أطنان من الذكريات الحزينة التي صنعت مفارقات أسرة ابتلاها الله سبحانه وتعالى بنكبة كبيرة ولا اعتراض على قضاء الله وقدره.. ويقول العم عبده غالب: «المرحومة دخلت في معاناة مع الحزن وفي مكابرة مع الحياة لتوفير لقمة أطفالها الحدث إنها بعض الذكريات المؤلمة التي لازمتها طوال حياتها حتى وفاتها برصاص الغدر، وكانت الضحية خديجة نعم الأم عند أطفالها رغم ضيق الحال، فقد كانت سراجاً لهؤلاء البراعم». وقال:«وفاة الأم أمام أعين أطفالها رمياً برصاص الغدر بدون شك قد تسببت في خلق حالات اضطرابية ونوبات نفسية يشكو منها أولادها الأطفال من بعد وقوع جريمة اغتيال والدتهم أمام أعينهم». وأضاف:«يا ولدي حكاية هذه الأسرة تدمي القلوب، فماذا عساني أقول بعد رحيل ربة البيت والأطفال». بعدها سألت عميد عن مابقي لهم في الدنيا بعد رحيل أمهم؟ فأجاب والحسرة تملأ كيانه والقهر يمتزج في أحشائه: «لم يبق لنا شيء بعد ضياع أمنا، لأنها رحلت من دون أن تودعنا.. رحلت من دون أن تترك لنا وصية تعيننا على رسم خطى المستقبل. فاتتنا وراحت إلى حيث لا رجعة، وبعد فراقها أصبحنا لا حول لنا ولا قوة»، ثم أجهش بالبكاء وكان يقول:«نحن أبناء مقطوعون من شجرة لم يعد لنا رفيق يؤنسنا من الوحشة إلا العم عبده، فهو اليد الحنون التي تمسح دموعنا واليد التي تنفق علينا منذ رحيل أمنا وهو القلب الذي يحتوينا في منزله دون أن يرفض لنا طلباً إنه الوحيد الذي يزرع الأمل فينا والوحيد الذي يسأل عن أحوالنا وجزاه الله خيرا على صنائعه معنا».
قلب يحتضن أحلام اليتامى
يقول العم عبده غالب:«المرحومة خديجة عاشت بقلب مثقوب وبمعاناة لا تنتهي كانت ابتسامتها الطفولية تقاوم ظروف الحياة، كانت تمتلك قلباً ينزف مرارة الحياة الصعبة والقاسية كانت نعم الأم لأطفالها لا ترضى إلا أن يناموا بين ذراعيها وتحت دفء حنانها، كانت عفيفة وشريفة في منزل والدها المتوفى منذ سنوات ولم تمد يوماً يد التوسل لأحد، كانت تناضل لأجل إشباع بطون أطفالها المقطوعين لم تفكر يوماً بالتنازل عن فلذات كبدها بسبب ظروفها»، وتابع حديثه: «ظلت المرحومة طوال حياتها محافظة على أطفالها وشرفها ودينها حتى كسبت حب جميع أهالي المنطقة». وأردف بالقول:«كانت ذات أخلاق رفيعة تبتسم في وجه الصغير والكبير وملتزمة بفرائض دينها». واختتم حديثه:«إنني أتوجه من على منبر «الأيام» برسالة إلى أصحاب القلوب الرحيمة النظر إلى هذه الأسرة المنكوبة وإلى هؤلاء الأطفال الأبرياء الذين صادت أيادي الغدر أمهم وهم في هذه السن في أمس الحاجة لبقائها وعطفها وحنانها».

العمة فاطمة الرباكي تشير إلى موقع الحادث
في ذلك البيت الذي يسكن تحت وطأة الأحزان كان الطفل عميد بعينيه المتورمتين من كثر النحيب على فراق أعز الحبايب يحكي لـ «الأيام» وقائع المأساة المتمثلة باغتيال أمه أمام عينيه فبدأ قائلاً والغصة في حلقه والعيون تنزف دموع الفراق الصعب:«في يوم 2008/2/9 كانت عقارب الساعة تشير إلى الثانية ظهراً كان حينها علي عبدالله المريسي يحوم خلف منزلنا وأمام النوافذ وكانت أمي داخل البيت توزع ابتساماتها علينا وتداعب أختي الصغيرة كانت لا تمل من المداعبة والملاحفة كما عودتنا دائماً في لحظات العسر والضيق. وحينها كان المريسي يحيك خطة المؤامرة لقتل أمي، وفي لحظة مفاجئة اندفع نحو باب بيتنا فحاولت أمي إغلاقه إلا أنها لم تقدر على مقاومة القاتل ليتمكن من أمي ويسدد إليها عدة طلقات من مسدسه حتى أفرغه فيها وأرداها في الحال قتيلة أمام عيني، فحاولت لحظتها الدفاع عن أمي، لكنني لم أستطع إنقاذها نتيجة قوة القاتل الذي كاد يقضي عليَّ لولا تدخل المواطنين لإنقاذي من بين يديه وإرادة ربي لي بالحياة»، ويواصل حديثه بوجه شاحب وبصوت مبحوح قائلاً:«كان المذكور يتردد في كثير من الأوقات إلى جوار منزلنا بعد طلاقه لأمي وكان يقوم بشتمها بألفاظ بذيئة وتهديدها بالقتل في كثير من الأحيان أمامي كان آخرها صباح يوم الجريمة، حيث هدد وتوعد أمي ذلك اليوم بالقتل وكان يقول لها أمامي اليوم آخر يوم في حياتك سأقتلك اليوم، فما كان من أمي إلا أن أشهدت الناس على تهديده لها إلا أنه نفذ جريمته وقتل أمي في نفس اليوم أمام أعيننا أنا وأختي بدون أي رحمة أو شفقة بنا»، وقال:«أتذكر أنه كان يبيع ذهب ومواشي أمي في حين يوهمها بالخداع والكذب بأنه سيدفع لها ثمن كل ما باع من حقها في أي وقت تريد حتى لم يترك لها سوى ماشيتين إحداهما أصابها بالرجل برصاصة عندما كان يطلق على أمي وبعد أن استحوذ على كل أملاك أمي جازاها بالقتل بدون رحمة أو وازع من ضمير»، توقف بعدها لحظة، ثم قال:«أين نذهب أنا وأختي، ونحن في هذا السن ولمن نروح بعد أن ذهبت عنا أمي إلى حيث لا رجعة، لم يعد لنا أي أمل في الحياة بعد ضياع أمي». وخاطبني ببراءة قائلاً:«تخيل نفسك بموقفي ولا يوجد لك في الدنيا لا أب ولا أم ماذا ستفعل». وقال في ختام حديثه: «أدعو الحكومة والدولة والقضاة أخذ حق أمي من قاتلها ومجازاته بمثل ما فعل بأمي وشردنا وشكراً لكم لنزولكم إلينا».
وماذا بعد المأساة ؟
هكذا تتهادى العبرة السجينة وتتقاذف براكين الحزن بداخل قلب وأحشاء الطفل عميد بسبب مأساته التي يعانيها لوحده بفراق أمل حياته وكل كيانه (أمه) لتمزق كل هذه الآهات المتراكمة والجاثمة على صدر هذا الطفل البريء أنياط القلب من شدة قساوة ما يعانيه. إنها جزء من فيضان الحزن والألم وشلال العجز والانكسار التي تلهب أعماق هذه النفس البريئة ومع هذه المأساة يتوقف نبض القلم عن الكتابة وتعجز مفردات اللسان عن التعبير، وفي النهاية «الأيام» تدعو جميع أهل البر والإحسان النظر إلى هؤلاء الصغار ضحايا غدر الزمان، كونهم بعد أمهم مقطوعين من شجرة، ولكم عنهم خير الثواب والجزاء.