«الأيام» تستطلع أوضاع أهالي الفرع في إب ..مديرية فرع العدين.. أسيرة الحاضر الحزين وعُزل تتناثر على صدر الجبال لتحكي قساوة الصراع المرير مع الحياة

> «الأيام» محمد مرشد عقابي:

>
خلف سلاسل جبلية شاهقة وملتوية ومتعرجة تمتد بانسياب متدرج من شرعب حتى العدين، تربض هناك مديرية الفرع، إحدى مديريات العدين الأربع حاملة في بواطن أرضها السحر الطبيعي الآخاذ، فهذه المديرية المرمية في الجانب الغربي لمحافظة إب تتزين بمكياج الجمال الطبيعي الآسر للبصر والبصيرة، وتتكون من عدة عُزل مترامية على صدر وسفوح تلك الجبال، وتنتشر منازل تلك العزل على قمم ومرتفعات هذه الجبال الخضراء لترسم بذلك لوحة جمالية بديعة من صنع يد الإنسان، فبعض المنازل المعلقة على السفوح يخيل للناظر إليها أنها تاج تتزين به قمم هذه الجيال، والبعض الآخر منها تتراءى وكأنها قطرات ندى زُخت من غيمة مطر لتروي عطش شفاه تلك الجبال الصماء بصور مجسدة لواقع لوحة مخضرة تتعلق بين السماء والأرض، في مشهد جمالي تعجز تعابير اللسان عن وصفه.

«الأيام» شدت رحالها إلى موطن الأحزان الدفينة، ومن هناك لامست هموم وأوضاع أبناء هذه المديرية المحرومة والمهضومة، فكان أن حطت أشرعتها على ضفاف عُزلة بني أحمد، لتكون نقطة الانطلاق لبداية مشوار الاستطلاع في هذه المديرية عُزلة بني أحمد الثلث، هذه العُزلة التي يقطنها أناس يتميزون بالطيبة والكرم والجود، تتنوع مآسيها وترتسم المعاناة على وجوه أهاليها، فلا طرق ولامشاريع حيوية ولاغير ذلك من أساسيات الخدمات، آهات تنطلق من أفواه أهاليها تخترق جدار الصمت لتحكي حقيقة الواقع الآليم، ومعاني قساوة العيش عند الإنسان. ثمة تساؤلات لاتجد لها مطرح غير البقاء على حافة الألسن لسنوات طويلة، تظل حبيسة الكبت. «الأيام» وبعد إلحاح كبير من جانب أهالي المديرية، وبالأخص أبناء عُزلة الثلث الذين أصروا على نزولها لبت النداء إثر وصف الجميع لـ «الأيام» بأنها متنفسهم الوحيد للبوح بأسرار معاناتهم التي بقيت رهينة لأعوام في الأجواف، لاتستطيع ألسنتهم أن تصدح بها من شدة وطأة الإقامة الجبرية، والعزلة المفروضة عليهم حين ذاك، فعايشت همومهم عن قرب كما أرادوا لتنقلها بشفافية مطلقة للقارئ والمسئول على حد سواء، فإليكم أعزائي ما جادت به هذه الأسطر من مفردات المعاناة.

الطريق إلى فرع العدين

عند نزول «الأيام» للمديرية كان رفيق الحال والدرب الشيخ مطيع البوكري، فقد هيأ الرجل جميع الظروف الملائمة، وكان نموذجا للكرم الحاتمي، وكان نعم المرشد طيلة وقت الرحلة المتعبة، تارة يرسل إبهامه ليؤشر على منظر ما يعرفنا عليه، وتارة يضفي جوا من الأنس والترغيب للسفر حتى لانشعر بالضجر والملل، وأكثر ما شد انتباهي ترديد الشيخ مطيع عبارة: « «الأيام» أطلت إلينا كالشعاع الذي انبثق بعد طول زمن في كبد سماء حالكة بسواد الظلام!»، فبادرته في إحدى المرات بالقول: ما معنى هذا ياشيخ؟. فرد بالقول: «معنى ما أقول ستلمس إجابته بنفسك من ألسنة المواطنين».

ومررنا في هذه الرحلة الطويلة بطرق وعرة وشاقة مليئة بالالتواءات والتنوءات والصخور والانحدارات، وبين لحظات الوقوف بسبب الوعورة يردد الشيخ مطيع قائلا: «هذه هي طريقنا الرسمية التي نسلكها ذهابا وإيابا عند السفر، وهي النواة الحقيقية لبداية حلقات المعاناة، ظللنا نمشي فوق هذه الطريق الجبلية لساعات طويلة، والطريق كما تشاهد لاتصلح لسير الحيوانات البرية عليها، فما بالك ببني آدم».

وفي إحدى المرات تداخل معي الشيخ مطيع في لحظات تبادل الحديث: «المشي والعبور على ظهر هذه الطريق يعتبر نوعا من المخاطر والمغامرة بالحياة، ففي مواسم الأمطار تتساقط الأحجار والصخور وتجرف السيول أجزاء منها وتسد أجزاء أخرى، ويعيش المواطن بسببها معزولا عن الآخرين، لا أحد يعلم بأوضاعنا إلا الله». مضينا نتبادل أطراف الحديث في السفر عابرين مسافات طويلة، وكان قلبي يتقطع خوفا، وضرباته تزداد بسرعة وتتضاعف باستمرار بسبب الركوب على هذه الطريق التي ينبعث منها شؤم الأقدار والهلاك المحدق. وفي لحظات عصيبة مررنا بها في الطريق ارتفعت أصواتنا تنادي الرحمن بالأدعية والآيات والمأثورات تحسبا لأي طارئ وتخوفا من سوء المنقلب، كانت الإطارات تعلق وتلتصق على تلك الصخور الملساء، وبفضل منه تعالى اجتزنا بسلام هذه الطريق، وبينما نحن نسلكها كان أكثر ما شد ولفت انتباهي مناظر الخضرة والجمال الذي يكسو صدر تلك الجبال، ويستر رقعة واسعة من التلال المحيطة والمحاذية للطريق، كانت حينها السيارة التي نستقلها تمشي ببطء شديد خوفا من التدحرج أو الانزلاق للأسفل، في وقت شفاهنا تتحرك بالدعاء مرة أخرى بالسلامة واللطف. تعاقبت الساعات الطويلة على وعثاء السفر ساعة تلو الأخرى، إلى أن شاءت الأقدار أن تسلمنا بأمان الله لنحط رحالنا في عزلة بني أحمد الثلث، حيث كانت بداية المشوار في ملامسة وتر معاناة أهالي المديرية.

فأس المدرسة المتشققة ينذر بالانغراس في رؤوس الطلاب

مدرسة (أبوبكر الصديق) في العزلة آيلة للسقوط والاندثار، حيث أضحت المدرسة الوحيدة في العزلة كابوسا مزعجا للطلاب يلاحقهم ليلا نهارا وقت الدراسة ووقت المنام. مدرسة تتكون من 6 فصول أكل عليها الدهر وشرب، مدرسة تتميز بالتصدعات والتشققات وتتسم بأخاديد في جدران فصولها، أبرز قاطنيها الوطاويط والثعالب، ودابة الأرض (الأرضة)، مدرسة توحي بإحدات كارثة طلابية وإبادة جماعية لكل من يأويها في القريب العاجل، ذلك جزء من دراما واقعية وسيناريو يومي لهذه المدرسة المزعجة، فصولٌ سطوحها تتفتت يوميا ويزداد خطر سقوطها فوق رؤوس الطلاب باستمرار، وفق درجة الإهمال المسلط، نوافذ وأبواب تتآكل وتتهالك بفعل الأرضة، والنتيجة لاترميم ولاتأهيل ولا أبسط التجهيزات، أطفال وطلاب المدرسة يدخلون يوميا سباقات العدو الطويل في ملاحقة مستمرة منهم لظل الأشجار، حيثما حل وذهب تحاشيا لوقوع فأس المدرسة الحاد فوق رؤوسهم، تقابل ذلك ضمائر ميتة من جانب مسئولي المديرية، فلا أحد يتحرك قيد أنملة لإنقاذ براءة أطفال المدرسة من ضنك التعاسة والشقاء ولهيب الشمس والحر.

عزلة بني أحمد الثلث تئن من مشانق المكابدة والنسيان

بعد أن حطت «الأيام» الرحال وسط عزلة بني أحمد الثلث، كانت الأجواء حينها يلفها نوع من الهدوء التام، غابت الضوضاء، ودفء نسايم الهواء العليل يهب علينا، جو يخلو من أي أصوات ماعدا أصوات زقزقة العصافير التي كانت في مشهد يدل على الإرادة والمثابرة، تنتقل بين أغصان الشجر بحثا عن النسمات الهادئة الرومانسية.

وبينما كنت غارقا في التأمل فيما حولي من روائع الطبيعة الخلابة شد ناظري مباني مشيدة من الحجارة تظهر عليها علامات الأزمنة القديمة، وتتجلى فيها ميزات إبداع الفن المعماري الأثري، ودلائل إجادة أيادي الأجداد في صنع وتخليد رثاء تاريخي لايفنى أويمحى.

كانت عقارب الساعة تقترب ليعلن مؤشرها اكتمال نصف النهار، اقتادنا إثر ذلك الشيخ مطيع إلى منزله ليقدم لنا ما تسير من صفاوة الكرم الحاتمي المعهود عند أهل القرى، وبعد جود الضيافة ذهبنا سويا إلى مكان المقيل، حيث قابلنا معظم أهالي العزلة الذين يتجمعون في أحايين كثيرة في هذا المكان لقضاء الوقت، وتغيير وتائر الحياة والملل المصاحب لها، وفي هذا المكان الذي يقصده الكثير ظهر كل يوم (للقيلولة) وبسبب تناول الجميع في العزلة خبر نزول «الأيام» تقاطرت مجاميع من الأهالي وتوافدت أرتال إلى المكان للترحيب بقدوم الصحيفة، وعندها تحول المكان إلى خلية متجانسة من المواطنين، نثر خلاله الجميع انطباعاتهم عن واقعهم المعاش، فكان الشد والجذب في تداول أطراف الحديث بين الحاضرين.

المواطن والشخصية التربوية حاتم محمد عبدالقوي قال: «في البداية من واجبنا كأبناء لهذه المديرية أن نقدر ونثمن ونشكر كل القائمين على «الأيام» التي تستحق الثناء والتقدير لما تقدمه من جهود كبيرة متواصلة في نقل هموم أبناء الوطن جنوبه وشماله، أما بالنسبة لأوضاع أهالي عزلة بني أحمد فهي مأساوية للغاية فلا مشاريع تنموية وحيوية موجودة ولاغير ذلك، حتى أن بعض المشاريع التي يعلن عن القيام بها، ويقوم بها فاعلو الخير لنا، تصطادها الأيادي الخبيثة من خلف الكواليس، وتواجه من يعيقها من المسئولين ليمنع وصولها إلينا.. إنها الكوراث الحقيقية التي أعيتنا».

وأضاف قائلا: «عقود من الزمن ومديريتنا تعيش رهن المعاناة، ومعادلات مآسينا لاتجد من يعطي لها من المسئولين بوادر الحل، فالجهات الرسمية لاتتمثل دور البطولة في صياغة وطرح ما لذ وطاب من مشاريع ورقية لايعرف الجميع أين أنجزت؟ هل في اليونان أم في جزر البلقان؟!».

ومضى: «سنوات ونحن محنطون بالإهمال ومقيدون ومعزولون من الخدمات، ونفتقر لأبسط عوامل الحياة الإنسانية في هذه المديرية». وتابع حديثه قائلا: «أسلوب حياتنا اليومية يتنافى تنافيا كاملا مع ما يطلق من شعارات بلهاء للتطور والتقدم التي يزمر بها بعض المفلسين، فالحقائق المخيفة خلف كثبان الأكاذيب والافتراءات تقول إننا سائرون بعجلة الهرولة إلى الخلف، ومنزلق العودة إلى عصور ما قبل التاريخ».

واستطرد بالقول: «أي عيش وأي حياة في ظل انعدام أي خدمة يؤسس عليها بنيان البقاء، فالعزلة برمتها لايتوفر فيها مشروع حيوي يذكر، فلا طرق ولاماء ولا كهرباء ولا وحدة صحية ولا مدرسة مجهزة بشكل حقيقي، ولا حتى بقايا وفتات من الأطلال الرديئة، فأي إنجازات وأي بدع يضحك بها أصحاب البطون المنتفخة والعضلات المترهلة على ذقون الغلابى من أبناء العزلة؟!». واختتم حديثه قائلا: «إننا سعداء بنزول «الأيام»، أول مطبوعة تكلف نفسها معايشة واقعنا البائس والمعتم والمتخلف لسنوات ظل فيها الهم والتعاسة والحزن حبيسا في النفس، نستغل هذه الفرصة لنرسل من بلاطها المزدان بصرخات وآهات كافة أبناء الوطن المكلوم استغاثتنا ونداءنا لكل فاعلي الخير بأن يسارعوا إلى إنقادنا، وعمل ولو مشروع مياه تكون لهم به صدقة جارية، بنهر الخير والثواب، بعد أن وصلت استغاثاتنا وتوسلاتنا بالجهات الرسمية إلى طريق مسدود بصخور أكاذيب الوعود وافتراءات المشاريع الوهمية».

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى