السحر الحلال

> «الأيام» عبدالناصر النخعي:

> قد يدهش قارئ عنوان هذا المقال ويعجب من تحليل السحر الذي جاء تحريمه في التنزيل وعلى لسان النبي النبيل - صلى الله عليه وسلم- ولكن السحر الذي أعنيه هنا هو الكلام الفصيح والقول المليح الذي تستعذبه القلوب وتستهويه الآذان وترتاح له الأرواح، الكلام الذي وصفه من لا ينطق عن الهوى بأنه يفعل فعل السحر إذ يقول: «إن من البيان لسحرا وإن من الشعر لحكمة» (رواه أحمد وأبو داود عن ابن عباس رضي الله عنهما).

نقول هذا الكلام لمن يستخفون بالعربية ويقللون من شأنها، فقد كانت اللغة منذ أقدم العصور باباً للخلاص من الشدائد والنجاة من المواقف الصعبة، وكان يكفي أن يتكلم البليغ بما يحسن والشاعر بما يبدع والكاتب بما يجيد، حتى تسترق القلوب وتميل العقول وتهدأ النفوس متأثرة بهذا الجمال اللغوي وبهذا السحر العفوي.

فالفصاحة والبيان يفعلان بالألباب ما تفعل الخمر، ولا سيما عند الملمات المدلهمات، فيصبح البيان الآسر سلاحاً فتاكاً، ويمسي التعبير الجميل قوة لا تقهر، ويظل الشعر البديع طباً للقلوب والأرواح.

جاء في كتاب (العقد الفريد) لابن عبدربه، أن أحمد بن أبي داود قال: «ما رأينا رجلا نزل به الموت، فما شغله ولا أذهله عما كان يجب أن يفعله إلا تميم ابن جميل، الذي خرج عن المعتصم، فلما جيء به إلى المعتصم أمر بالنطع والسيف فجعل تميم ينظر إليهما، ولا يقول شيئاً، وجعل المعتصم يصعد النظر فيه ويصوبه - وكان جميل جسيماً وسيماً- فرأى المعتصم أن يستنطقه لينظر أين جنانه ولسانه مما يرى فقال: «يا تميم إن كان لك عذر فأتِ به، فهذا أوان الحجة والاعتذار».

فقال جميل: «أما إذ أذن لي أمير المؤمنين فإني أقول: الحمدلله الذي أحسن كل شيء خلقه، يا أمير المؤمنين إن الذنوب تخرس الألسنة وتصدع الأفئدة، ولقد عظمت الجريرة، وكبر الذنب وساء الظن ولم يبق إلا عفوك أو انتقامك، وأرجو أن يكون أقربهما منك وأسرعهما إليك أولهما بامتنانك، وأشبهما بخلائقك، ثم أنشأ يقول:

أرى الموتَ بين السيف والنطع

يـلاحـظـني مـن حـيـثـمـا أتـلـفـتُ

وأكبر ظني أنك اليوم قاتلي

وأي امـرئ ممـا قـضى الـله يفـلتُ

ومن ذا الذي يدلي بعذر وحجة

وسـيـف المنايا بين عـينيه مصلتُ

وما جزعي من أن أموت وإنني

لأعـلـم أن الــمـوت شـيء مـؤقــتُ

ولكن خلفي صبية قد تركتهم

وأكـبـادهـم مـن حـسرة تـتـفـتتُ

كأني أراهم حين أنعى إليهمو

وقد خمشوا تلك الوجوه وصوتوا

فإن عشت عاشوا خافضين بغبطة

أذود الردى عنهم وإن مت موّتوا

فكم قائل لا يبعد الله روحه

وآخـر جـذلان يـسـر ويـشـمـتُ

فلما سمع المعتصم هذا المنطق الرقيق والعذر الرشيق والقصيد الأنيق ابتسم وقال: «كاد- والله- يا تميم أن يسبق السيف العذل (هذا مثل تضربه العرب في عدم نفع الكلام في أمر قد أبرم) اذهب فقد غفرت لك الصبوة وتركتك للصبية».

وهذا هو المقصد الذي يرجى من الكلام وحسنه، فهو كما ترى قد ثبّت رقبة تميم بن جميل على كتفه، إذ كادت أن تفصل عن جسده قبيل حديثه ومنطقه.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى