الدولة أولاً

> برهان أحمد إبراهيم:

> أشد الإشكاليات، وأكثرها تعقيداً، أن يقع المجتمع في قبضة سلطة لا هدف لها سوى الدفاع عن مواقعها في الدولة، إذ تصبح الدولة حينئذ مصدراً نشطاً لخلق الأزمات، وعبئاً يرهق المجتمع، ويحول دون تقدمه.

انقياد السلطة لضغط وسواسها القهري في الدفاع عن مغانمها، وبخاصة بعد أن أثارت بنهجها الكثير من المشاكل في وجهها، ضاعف من حالة ارتيابها، وتوهمها أن ثمة خطراً يهددها، وهذا الآخر جعل عقلها لا يقوى على التفكير، إلا في تعزيز أمنها، وفي المحافظة على الوضع القائم رغم علاته وتشوهاته، والمخاطر الناجمة عنه.. ففوبيا ترك السلطة، وارتفاع ضغط الهاجس الأمني لدى السلطة، عطلا كفاءة أدائها العقلي، الذي أفضى بها إلى تهميش الدولة كمؤسسة إجرائية، وإفراغها من طابعها العمومي، ومنعها من النمو اجتماعياً، لتُسخّر لخدمة قلة من القائمين عليها فقط.

تهميش الدولة وإفراغها من قيمتها كقانون وإجراء وإدارة وإنجاز، مرده اعتقاد السلطة أن الدولة ما هي إلا امتداد لظلها، وبناءً على قصورها هذا، مارست السلطة أعلى مستويات العبث، والخلط المقصود بين الدولة كنظم وقواعد ومعايير، وبين ما تعتقده وتتبناه من قيم ومفاهيم وتقاليد، تحتفي بها، وتنتصر لها كمثل تغليبها العرف والوجاهة على الدولة والقانون، فأشاعت العرف وزادته قوة، بإضعافها المستمر للدولة على أرض الواقع.. وبذلك أكدت السلطة انتفاء إيمانها بالدولة (كأداة لتحقيق الإرادة العامة). وإحجامها عن وضع تصميم عملي لبناء الدولة، وهيكلة مؤسساتها، وفق منهجية منضبطة، لتفسر بنهجها هذا أسباب عزوفها عن أية محاولة لقراءة وفهم محتوى لوحة مفاتيحها كسلطة، وخلطها المقصود بين مفاتيح وظائفها التنفيذية والتشريعية والقضائية، اللازمة لإدارة شؤون البلاد، ليتشكل من ذلك فسيفساء من الفوضى والعبثية.

وفي ظل حالة الهزال المعنوي والمؤسسي، تيسر للفساد أن يطل برؤوسه من تلك الفتوق الهائلة في بنية الدولة المصابة بالشلل، التي لم يعد لها من وظيفة سوى تعميم الفساد، بعد أن تحولت مؤسساتها وأجهزتها ومكاتبها إلى سلسلة من الإقطاعيات الخاصة بكبار موظفي الدولة وأسرهم.

الأزمة إذاً، أزمة دولة في أبعادها الثلاثة، فإن توهمت السلطة الحاكمة غير ذلك، أو أن بمقدورها إعادة تسويق نفسها تحت غطاء آخر (حكم محلي - نظام رئاسي - استثمار- مجلس تعاون خليجي) قبل أن تبدأ عملياً تصحيح مفهومها للدولة، وتحديد وظيفتها كسلطة، وتقييم أدائها، والبحث عن العناصر اللازمة لبناء دولة مؤسسية يحكمها قانون عام، سيبقى ما تروج السلطة له قبض ريح، إن لم يكن حصد شوك.. فلا يستقيم الظل والعود معوج!!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى