متخلفون جداً ولسنا مختلفين فقط

> أبوبكر السقاف:

> كان غلاة المحافظين من اليهود الذين يعيشون في أوروبا في القرن التاسع عشر يصرون على التمسك بكل قديم في التقاليد والآراء والعيش رافضين محاولات جهود حركة التنوير الثقافية الصهيونية التي كانت تصر أنهم متخلفون، وإذا ما أرادوا أن يتقدموا لابد لهم من الإقرار بحقيقة كونهم من المتخلفين، وهذا شرط التقدم. وكانت حجة المحافظين أنهم مختلفون ولكنهم لسيوا البتة من المتخلفين. نجد سرداً لهذا الجدال في كتاب الزميل عبدالوهاب المسيري منسق الحركة الديمقراطية للتغيير (كفاية): الجماعات الوطنية اليهودية، دار الشروق، القاهرة 2004.وبعد إعلان دولة الاحتلال الصهيوني في فلسطين احتدم نقاش بين رئيس وزرائها بن غوريون ورجال الدين اليهود، الذين نددوا بمعالم علمانية في الدولة تناقض المعتقدات اليهودية الدينية وشددوا الفكر على العلمانية وخطرها على اليهود، فما كان منه إلا أن رد عليهم قائلاً إنه لولا جهود العلمانيين والعلمانية ما كانوا اليوم في فلسطين.

في مرحلة الإصلاح الديني التي قادها الأفغاني ومحمد عبده كان تخلف المسلمين والعرب مسلمة لاتناقش، بل هي نقطة الانطلاق للتفكير في إصلاح أحوال الأمة، ومنذ منتصف القرن العشرين بدأ النقد الإسلامي للغرب يتخذ سمات جديدة، وبعد أن كان الأفغاني وعبده يؤكدان ضرورة الالتحاق بركب المدنية بالبحث عن مرتكزات لها في الإسلام والحضارة العربية الإسلامية، أصبح الإسلام السياسي يغلب شيئاً فشيئاً فكرة فحواها أن الغرب هو المتخلف أو الجاهلي، كما جاء في كتاب الشهيد سيد قطب «معالم في الطريق»* ولم يعد التخلف وجاهليته مقصوراً على الأخلاق وفشو النزعة المادية والجشع والأنانية كما كان يقال منذ زمن طويل، بل عمم على كل مظاهر الحياة الاجتماعية والسياسية، وباختصار لسنا بحاجة إلى تلك المدنية التي فكر فيها الرواد.

قبل نحو ثلاثة أعوام نشر في يوميات الثورة الصنعائية ** موضوع بعنوان (مختلفون لا متخلفون). تذكرت جدال رجال الدين اليهود والتنويريين اليهود.ولا أدري هل كان العنوان منقولاً من تراث الحاخامات أم أنه توراد خواطر، ووقوع الحافر على الحافر مدهش على أية حال، أم أن الذهنية المتشابهة تنتج تصورات متشابهة. وفي الحالين اليهودي والعربي هناك تخلف لايراه المحافظون ولاسيما الصفوة منهم الذين يصفهم بالرجعيين، وهم كذلك، وقد ثبت هذا في حال يهود الشتات الذين قادتهم الحركة الصهيونية إلى تأسيس دولة احتلال استيطاني في فلسطين تتميز بدرجة عالية من العدوانية والغرور وتكرر تجربة النازية الرابعة وهي تتوحد بجلادها وعرب فلسطين ضحيتها، ومايحدث اليوم في غزة ذروة من ذرى العزل العنصري (الأبارتهايد) الدموي، واعترف نائب وزير دفاع العدو في سقطة لسان أنه هولوكست (مشواة).

هناك نرجسية صريحة أو مضمرة عند المفكرين والكتاب العرب في غير قطر عربي مفادها أن بلداننا متقدمة، ولكن جبروت الغرب حال بينها وبين ممارسة سياسية تثبت بها حقيقة تقدمها. وينتشر هذا الرأي أو الهوى في مصر بصفة خاصة، ويخشى أن يتصدى له أي كاتب، ولذا كانت كلمة الزميل صنع الله إبراهيم في حفل تسليم جائزة الرواية العربية قبل أربعة أعوام مدوية، لأنه قال فيها نحن متخلفون في كل مجال وعلينا أن نقلع عن الكذب على أنفسنا، وأكمل كلمته برفض للجائزة التي يقدمها نظام حكم يصنع هذا التخلف. وغضب كتاب السلطة وأنكروا عليه حتى صفة الروائي!؟وصنع الله روائي يساري معروف في مصر والعالم العربي، ونقلت مؤلفاته إلى غير لغة أوروبية، وليس صدور هذه الآراء منه من الأمور غير المتوقعة. ولكن الذي أدهشني حقاً هو مقال د. عبدالمنعم سعيد، رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام، وعضو مجلس الشورى المصري، الذي نشر في العام الماضي في صحيفة «المصري اليوم» بعنوان متحد: مصر متخلفة جداً، وعبدالمنعم من كبار المثقفين الذين ارتبطوا بالحزب الحاكم ، وقد جاءت مقالته رداً على تصريحات رئيس الوزراء، د. أحمد نظيف بشر بها الرأي العام بأن مصر في نحو العام 2020 ستكون في عداد الدول المتقدمة، ومن المعروف أنه من المتحمسين لإدخال الحاسوب في كل المؤسسات الإدارية والحكومية.

أراد رئيس مركز الدراسات أن يكون واضحاً فجاء مقاله خالياً من اللغة المراوغة التي تصطنع لمداراة القارئ وتجنب خدش غروره أو وهمه أو نرجسيته التي يصنعها الإعلام الرسمي، والمثل الفكرية والأخلاقية والجمالية التي تنشرها الثقافة السائرة ويقوم بضخها يومياً جهاز الدولة ونرجسية الإسلام السياسي، التي تعلن قطيعة ثقافية مع العصر وتطارد بالحسبة وغيرها التجديد والمجددين في الفكر والشعر والفنون. ولعل أحد أسباب الوهم القاتل المتمثل في الإصرار على أننا من المختلفين عن الغرب ولسنا من المتخلفين. إن المال النفطي يشتري كل شيء، ولذا لا يرى أصحابه أنهم بين أشد المتخلفين بؤساً في عالم اليوم تخلفهم جامع مانع، يشمل كل المجالات، ويبدأ بانفصال القيمة المادية والمعنوية عن العمل المنتج، بل إن العمل موضع ازدراء في كل دولة ريعية أو شبه ريعية ، لأن البطالة أو اللاعمل ينتج الثروة في هذه البلدان التي يحتكر حكامها الإمساك بالثروة الوطنية ويجعلون من توزيع الأرزاق وظيفة السياسة الأولى. ومع تفاوت أحوال دولنا الريعية فإن الثروة الطبيعية وأهمها النفط، والمساعدات الخارجية من مكونات الريع. إن حال مصر بعد أزيد من قرنين من محاولات التحديث تدعو إلى التفكير الجاد في أحوالنا جميعا***. إن فحص سؤال الأسئلة الذي بدأت حركة الإصلاح بطرحه هو ما علينا أن نعود إليه وبصراحة ووضوح وبطرح أساطيرنا التي تمعن في غرسنا في مستنقع التخلف، أي مجتمع متقدم يموت فيه خمسون إنساناً في طوابير الخبز بمصر في آذار الماضي. لك يامصر السلامة.

2008/4/12م

* لعل السبب الشعار عند المحافظين اليهود هو «شعب الله المختار» والاستثنائية اليهودية وعزلة الخيتو اليهودي، وفي حالنا اليمنية للعزلة الثقافية وتدني المستوى الثقافي، والذهنية القبيلية دور في صوغ هذا التصور العامي عن الذات والآخر والعصر. تجاوزت الديانة المسيحية والإسلامية اليهودية .

**كانت بذوره موجودة في «المستقبل لهذا الدين»، التشديد على كونية الإسلام قائم عند السلفيين منذ الأفغاني وعبده، والمودودي والندوي يقدمانه في صورة تحد وشيء من الاستعلاء، وجوهر السلفية الإسلامية أن الإصلاح مستحيل دون العودة إلى الأصل أي الوحي وأنه يأتي في المرتبة الأولى السابقة على العقل. ولا يلاحظ كل الأصوليين إسلاميين أو عروبيين أن الكونية تتطلب تقديم أنموذج للعالم، كما حدث معنا في عصرنا الذهبي عندما كانت الحضارة العربية الإسلامية أنموذجاً يقلد ويدرس، ولذا يعيرون سؤال الاندماج في العصر بماهو مشكلة، اهتماماً مركزياً ودائماً: لأن القضية ليست البتة العودة إلى الأصل، واستمرارية ثقافتنا فينا وفي مواقفنا ليست إلا وهماً نبرر به ضرورة العودة إلى الأصل .

***وقف اليابانيون والصينيون والهنود أمام مشكلة التحديث زمناً يتراوح بين قرن ونصف القرن ولاتزال ممانعتنا تضرب رقماً قياسياً في الوقوف على الأطلال أزيد من قرنين في حال مصر. أجادوا التتلمذ والإبداع وخروجنا من الدائرة السحرية لمشكلة موهومة تتحدث عن الأصالة والمعاصرة، ونحن لانزال نراوح داخل ممانعة عقيمة ترفض العصر وتمثل دور الطالب الأبدي في إحدى مسرحيات الكاتب الروسي أنطوان تشيخوف. وكان الوقوف على الأطلال طبع راسخ، جعلت الكاتب المتمرد الراحل عبدالله النعيمي يضع أمته بين الأمم المتحجرة غضباً عليها أكثر مما هو غضب منها ،إذ لاتوجد أمم متحجرة إلا في قاموس العـرقية العالية عند غوبينو وأمثاله .

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى