بلاغات المحمول

> «الأيام» د. سالم عبد الرب السلفي:

> يمكن الحديث اليوم عن بلاغة خاصة بجهاز التلفون المحمول، ذلك أن هذا الجهاز منذ أن ظهر، وظهرت فيه خدمة الرسائل، فرض على مستخدميه ضروبا من الكلام تختلف عما نكتبه ونقرؤه في قنوات الاتصال الأخرى.

وبداءةً أنبه إلى أن إضافة البلاغة إلى المحمول هي من باب إضافة الشيء إلى أداته، فالمحمول هو أداة الاتصال التي يتم بها إرسال الرسالة من الكاتب إلى المتلقي. وهذه الإضافة جائزة ما دام المضاف إليه (المحمول) يُحْدِث أثرا وتغييرا، ويفرض خصوصيته في المضاف (البلاغة).

لكن السؤال المطروح: هل هناك بلاغة خاصة في الرسالة المبعوثة عبر جهاز المحمول؟ وإذا كانت الإجابة بالإيجاب فما هي خصائص هذه البلاغة التي تميزها من بلاغة قنوات الاتصال الأخرى؟

أما الإجابة عن السؤال الأول فهي: نعم، هناك بلاغة خاصة فرضها المحمول، فلم يعد كاتب الرسالة في هذا الجهاز يكتب كيفما اتفق، بل هو يبحث عن كلمات وعن جمل وعن تعبيرات خاصة، تعبِّر عن مكنونه الفكري أو الشعوري، باقتصاد يتلاءم مع الحجم الصغير المتاح للكتابة، ومع الرصيد والطاقة الكافيتين لإرسالها.

فالرسالة المكتوبة في المحمول هي رسالة خاضعة لشروط البلاغة ما دامت تسعى إلى موافقة الكلام لمقتضى الحال، وما دامت تخضع لقانوني الاختيار والتركيب القائمين على قصدية كاملة، مع حرص على الطابع الجمالي، واستخدام تقنيات لغوية خاصة بالتعبير والتأثير.

ما هي بعدئذ الخصائص المائزة لبلاغة المحمول من بلاغة قنوات الاتصال الأخرى؟ الخصيصة الأولى هي اقتصاد الكلام، وهذه خصيصة عامة في البلاغة؛ غير أن ما يميزها في بلاغة المحمول أن دواعيَها قد زادت، وصارت تشكِّل ضغطًا وعبئًا على كاهل المرسل، فكلما كتب عبارة طويلة عدل عنها إلى عبارة قصيرة، وربما عدل عنها إلى عبارة وجيزة، وربما عدل عن الكلام والحروف إلى الرموز والإشارات. وربما عدل عن الكلام كلية إلى الصورة الثابتة أو المتحركة، المصحوبة بالموسيقا أو الخالية منها.

لكن ما يهمنا هنا هو الرسالة المكتوبة، واقتصاد الكلام فيها تابع للاقتصاد في الطاقة من جهة، والاقتصاد في الرصيد من جهة ثانية، والاقتصاد في الحيز المكاني لكتابة الرسالة من جهة ثالثة. وهذه الثلاثة تمثل العوامل الرئيسة وراء اقتصاد الكلام، ومن ثم قصر الرسالة أو إيجازها.

وقصر الرسالة يتطلب قدرة على الإيجاز، والإيجاز يعمل من خلال تفعيل طاقة الاستبدال في محور الاختيار من أجل اصطفاء الدوال القليلة المتضمنة للمدلولات الكثيرة، وتفعيل طاقة التركيب في محور التوزيع لاصطفاء التراكيب اللغوية الموجزة، واستثمار تقنيات الحذف والإضمار والتنكير والتقديم والتأخير، وما إلى ذلك من التقنيات.

الخصيصة الثانية هي طغيان الوظيفة التأثيرية، وهي الوظيفة التي تتجه فيها الرسالة نحو المتلقي قاصدة تفاعله والتأثير فيه. وهذا أمر يفرضه طبيعة الجهاز المحمول؛ لأن المتلقي يكون حاضرا في الرسالة التي تكتب فيه، ولايمكن تصوُّر شخص يكتب رسالة في جهازه المحمول لنفسه، أو لمجرد اللهو أو اللعب، أو دون أن يفكر في إرسالها لشخص ما أو مجموعة أشخاص.

ومن هذا الباب ظهر في رسائل المحمول استثمار بعض التقنيات البلاغية التي تتلاعب بمشاعر المتلقي، وتوقعه في الحيرة والارتباك؛ وذلك لإيقاع أكبر الأثر في نفس المتلقي عند تلقيه للرسالة. من ذلك تقنية (حسن التعليل) وهو أن ينكر المرسل علة الشيء المعروفة ويأتي بعلة أخرى طريفة تناسب غرضه، كالرسالة الآتية: (قالوا: السماء تمطر من ماء البحار.. قلت: السماء تمطر من عيونك). ومن ذلك تقنية (المغايرة) وهي مدح الشيء بعد ذمِّه، كالرسالة الآتية: (ما كنت أعرف أنك أبو وجهين.. وجه قمر، ووجه بدر).

وهاتان التقنيتان قائمتان على الإرجاء، بمعنى إرجاء عنصر لغوي أو مجموعة عناصر تقلب مضمون الكلام السابق، ويتم هذا من خلال جعل هذا العنصر في الصفحة التالية، حتى يقع المعنى الأول في نفس المتلقي موقعا مؤثرا، وعندما يتمكن منه هذا المعنى يجد في العنصر اللغوي الذي تم إرجاؤه معنى مضادّا، فيكون أثره أقوى من الأول، وهو ما يجعل عملية التواصل بين طرفي الرسالة في أقصى حالات التفاعل.

الخصيصة الثالثة: البساطة، فالفكرة التي تتضمنها الرسالة في المحمول هي فكرة بسيطة، لا تحتاج إلى إمعان الفكر، أو تقليب القواميس، لكنها ليست في بساطتها مبتذلة سوقية، ذلك أن طبيعة المحمول قائمة على إحداث التواصل السريع، في حين أن الفكرة العميقة والكلام المعقد والصور المغربة تحول دون إحداث التواصل بالسرعة المطلوبة، وترجئه، وربما تعطّله.

ومن هذا الباب انتفى شرط الفصاحة، فبلاغة المحمول لاتعتمد الفصاحة شرطا لها؛ لأن الكلام العامي أقربُ وأيسر وأوقع، وقد تكون الرسالة بليغة وهي بلغة العامة، لكن هذا لايعني ألبتة أنها مبتذلة سوقية؛ لأن هذا يُسقط الكلام، ولايرفعه إلى مصاف البلاغة. ونحن نعرف اليوم أن من الكلام العامي ما يمكن أن يكون أكثر بلاغة وتأثيرا من الكلام الفصيح، ولنا في شعرنا العامي أمثلة لاتحصى على هذا. وكنت درجت في كتابة كثير من رسائلي الخاصة على هذا المنوال، فمن ذلك هذه الرسالة:

أَوَّلْ رِسالهْ بعد الشحن أَهْديها

لغيرَكِ انْتَهْ حبيبِ الروحِ ما بَتْرُوح

لأنَّ قلبي هُوَ اللي راح يِمْليها

والقلب مِلْكَكْ لوحدَكْ يا حبيبِ الرُّوح

وكِلْمِةِ الحُبِّ صَعْبَهْ ما يِسَوِّيها

إلا الذي كان قلبُهْ بالهوى مسفوح

وانا أَحِبَّكْ ، كِلْمَهْ ما يِساويها

إلا حياتي، لو راحت لكم مسموح

الخصيصة الرابعة: الطابع التزييني، وهذا يتمثل في حرص المرسل على تزويد رسالته بقيمة صورية أو موسيقية. وهذا قد يكون من خلال اللغة أو من طريق استخدام بعض الأشكال المخزنة في الجهاز، كاستخدام صورة القلب مكان كلمة (حب) في عبارة (أ ك)، أو استخدام علامة (×) للدلالة على القُبلة، أو استخدام علامات الترقيم المختلفة لتصوير بعض الانفعالات، إلى آخر ما هنالك من الرموز.

واستخدام الموسيقا يتم بالعدول عن النثر إلى الشعر، وباستعمال التسجيع والتجنيس، ويمكن أن ندرج هنا قيمة موسيقية تتمثل في كلمات الأغاني التي ما إن تُقرأ حتى تقترن في ذهن المتلقي بموسيقاها. واستخدام الموسيقا في رسائل المحمول ظاهرة بارزة، وهي مستمدة من قصر الرسالة، فإن الرسالة كلما قصرت احتاجت إلى قيمة موسيقية ترفدها لتكون أوقع في نفس المتلقي. وهذه رسالة كنت كتبتها أفرطت فيها في استخدام تقنية الجناس:

أَهْدي سلامي لكل انسان إنساني

قد سَيْت مِنَّهْ بِوِسْطِ العين إنساني

وفي الضلوع التي أمست تِئنْ ساني

يِرْضى بطَبْعي إنْ أَعْوَجْ وإنْ ساني

وأرضى بطبعهْ إنْ أَنْضَجْ وإن سا ني

ما قَطْ نِسَيْتَكْ، وأنت اذْكُرْ أو انساني

في الأخير أرجو أن أكون قد وفقت في وضع يدي على أهم خصائص بلاغة الرسالة المبعوثة عبر الجهاز المحمول، منوها إلى أن كثيرا مما يكتب في رسائل المحمول لايمت إلى البلاغة التي نتحدث عنها بصلة، فالكلام في كل شيء كلامان: مبتذل وبليغ، فما كان منها مبتذلا لايعنينا بشيء، وما كان منها بليغا فهو ما قصدناه.

الأستاذ المساعد في قسم اللغة العربية بكلية التربية جامعة عدن

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى