بدايات تبلور وتشكل الحركة الاحتجاجية الاجتماعية السلمية في الجنوب

> «الأيام» قادري أحمد حيدر:

> الإهداء : إلى الصديق العزيز الدكتور/ محمد المخلافي ، رئيس المرصد اليمني لحقوق الإنسان ، أستاذ ، ورجل القانون والحق ، والمدافع عن قضايا الحريات وحقوق الإنسان في اليمن

الحرب والسياسة :

باختصار الحرب لا تصنع سياسة ولا تؤسس لفضاء سياسي مدني ، كما لا تبني دولة حديثة ، وذلك ما لم يستوعبه أمراء حرب 1994م وحرب صعدة على اختلافهما ، على أن ما يوحدهما أنهما حربان قد تقودان إلى تفكيك المجتمع ، وانهيار السلطة .

في البداية من المهم الإقرار وفهم أن الحركة الاجتماعية الاحتجاجية السلمية التي تشهدها المحافظات الجنوبية والشرقية بصورتها التي يجسدها مشهد الحراك الاجتماعي السياسي - الجماهيري - القائم اليوم، هي حركة اجتماعية نوعية جديدة، - وإن شابها بعض القصور في الأداء ، وعدم تبلور الفكرة السياسية - وهي أيضاً حركة فاقت دور ومكانة جميع الحركات الاجتماعية التاريخية التي شهدتها المستعمرة، عدن، هي نقلة في مستوى الوعي الاجتماعي، وفي طرائق التفكير السياسي الذي يفرضه العصر الراهن وتحولاته ومتطلباته، والشيء الجميل في كل ذلك هي القدرة الذاتية في مجتمع الجنوب تحديداً للاستجابة الاجتماعية والسياسية والثقافية والواقعية السياسية في تمثل واستيعاب الشرط السياسي والوطني ، والحاجة التاريخية لصعود وظهور مثل هذه الحركة الاجتماعية السلمية وهو في تقديرنا ما ساعد على تشكلها وظهورها بهذا القدر من المدنية الاجتماعية، ومن الطابع السلمي الذي تتحلى به حتى اليوم - على الأقل - وهي كذلك في تقديرنا بعث لأشكال كفاح ونضال كان مجتمع الجنوب اليمني الأكثر تأهيلاً واستعداداً وقدرة لاحتضانه وتقبله والتعاطي معه بصورة إبداعية وخلاَّقة، وإلا فكيف تفسر أن بداية تشكل تجمعات ولجان المتقاعدين، والعملية الاجتماعية الاحتجاجية ولدت في قلب المجتمع العسكري - في محافظات الجنوب - أو بتعبير آخر أن العسكريين والأمنيين الذين تدربوا على القتال والضبط والربط العسكري في جبهات القتال هم من يتصدرون نواة تشكيل وقيادة التجمعات الاجتماعية المدنية السلمية والديمقراطية, وهي في تقديرنا قضية وظاهرة بحاجة إلى بحث سياسي ، وثقافي، وسوسيولوجي وتاريخي، وكيف هي محافظة حتى اللحظة على طابعها المدني السلمي، رغم محاولة النظام والأجهزة الأمنية جرها إلى مستنقع العنف، والقتل والحرب، وهي ساحة الحرب التي قد يريدها ويجيدها النظام ليسقط من خلالها مشروع الحركة الاجتماعية الاحتجاجية السلمية، على أنه لا يدرك أن مثل هذه السياسات عواقبها بعد ذلك كارثية وغير محسوبة النتائج على كل الوطن, ويبدو أن قيادات التجمعات واللجان وغيرها - حتى اللحظة - مستوعبة هذا البعد الخطير والدامي ، رغم استخدام الأجهزة الأمنية لجميع وسائل القمع، بما فيه الرصاص الحي الذي استخدم ضد المعتصمين في جميع التجمعات والاعتصامات التي قادتها الحركة الاجتماعية الاحتجاجية الاعتصامية طيلة السنة الماضية - وحتى اليوم - من مهرجانات عدن 2/8/2007م و 1/9/2007م وحضرموت 10/9/2007م والضالع 10/9/2007م، ردفان 13/ أكتوبر 2007م وصولاً إلى عدن 13/ يناير 2008م. وعشرات المهرجانات المستمرة حتى اللحظة ، علماً أن البداية لإعلان هذا الحراك كان في 7/7/2007م .

لا يمكن إنكار أن حرب 1994م هي نقطة البداية ، كما سبقت الإشارة ولا يمكن الذهاب إلى قراءة وتفكيك وتحليل ما يجري دون الارتكاز والانطلاق من هذه اللحظة: (الحرب وآثارها ونتائجها، باعتبار الحرب كانت نتيجة أزمة سياسية بين شريكي سلطة دولة الوحدة، وهي حرب إقصاء، وضداً على فكرة الشراكة والمشاركة، وحرب على السلطة والثروة في التحليل الأخير- دون الدخول في التفاصيل- وأية قراءة بعيداً عن الإمساك بجوهر ومعنى هذه اللحظة سياسياً، ووطنياً، وتاريخياً لن يقود سوى إلى قراءات سياسية عابرة سطحية لا تقبض على جوهر السؤال، ولذلك - ومع الأسف - «إن معالجة ملف الحرب ونتائجها لم يتم على أسس تأخذ قضية الوحدة في الاعتبار، بل جرى بتَّها على أساس غالب ومغلوب، ولذلك خرجت الدولة الجنوبية التي دخلت الوحدة من المعادلة كلياً، بقيادتها السياسية وحزبها الاشتراكي، وجيشها حتى رجال أعمالها، وهذا ما يفسر الدعوة التي انطلقت بعد الحرب مباشرة تحت شعار إصلاح مسار الوحدة، الذي ترفعه التظاهرات الجنوبية اليوم في حضرموت وعدن»، وغيرها من محافظات الجنوب ، وإذا كانت الحرب حسمت الأمور عسكرياً ومع فورة النصر وخطابه المدجج بالسلاح، فأنها لم تحسم سياسياً، ووطنياً بل أن الحرب أوجدت شرخاً عميقاً في النسيج الاجتماعي الوطني. فالحسم العسكري لا يعني الحسم السياسي كما أشار إلى ذلك الرئيس على ناصر محمد بعيد الحرب مباشرة في مقابلة مع صحيفة الحياة اللندنية ، وأن الموقف السلبي والإجراءات التكتيكية في النظر والتعاطي مع مشهد الحراك السياسي الاجتماعي الاحتجاجي في الجنوب ، يدل على أن لا حل لدى السلطة التي صنعت الكارثة في الجنوب ، خصوصاً ، وفي كل الوطن عموماً ، - لأنه ليس كل أبناء الشمال مع سلطة الحرب - وأنها غير آبهة بما يجري ، ما يتطلب موقفاً سياسياً ووطنياً جدياً من كافة قوى المعارضة ، وخصوصاً أحزاب اللقاء المشترك - بل وكافة قوى المجتمع في البلاد - ورفع سقف موقفها من الإجراءات القمعية والاعتقالات التعسفية ذات الطابع الشطري، وتحديد موقف متنام ومتصاعد من الحراك السياسي الجنوبي ، ومن القضية الوطنية اليمنية الجنوبية. إن غياب المسؤولية السياسية، والوطنية، عند السلطة، بات يشكل عبئاً أخلاقياً، وضغطاً اجتماعياً ووطنياً على مستقبل علاقات الوحدة الوطنية، والاندماج الاجتماعي الوطني وعلى مسألتي الأمن والاستقرار ، والسلام الاجتماعي ، وعلى ما تبقى من الوحدة القائمة ولو من حيث الشكل والاسم . بعد أن أفرغت الوحدة بالحرب والدم ، وحدة 22مايو من طابعها السلمي، والوطني ، والديمقراطي ،ومن مضامينها الدستورية التي قامت عليها، ومن أبعادها، وأهدافها السياسية والوطنية ، بعد أن حولتها إلى غنيمة وفيد ، وحولت مشروع الدولة إلى مجرد سلطنة قبلية / عائلية . وهو حقاً ما يستدعي موقفاً سياسياً وطنياً جدياً من الجميع بالارتفاع إلى مستوى المهمات والمسؤوليات التاريخية التي تطرحها المرحلة أمام الجميع .

إن من يقود الحركة الاجتماعية الاحتجاجية السلمية إنما هم بشكل عام بقايا الطبقة الوسطى التي جرى وما يزال يجري تدميرها، وتفكيكها يدخل فيها نخبة من العسكريين والأمنيين، والمدنيين وجميعهم أكاديميون وفنيون وتقنيون واختصاصيون في أماكن أعمالهم وخبراء وإداريون وفيهم مثقفون (المثقف العضوي) ومن الناحية الاجتماعية، يدخل ويشترك في قلب هذه العملية السياسية الاجتماعية الاحتجاجية السلمية جميع أطياف المجتمع ، القائد العسكري والأمني، والاختصاصي الإداري، والفني ، والمثقف، والعامل، والفلاح، والشباب، والطلاب، والمرأة والشخصيات الوطنية والاجتماعية المستقلة، والأعيان والمشايخ والقبائل في معظم المناطق والأرياف، وجميعهم يبحثون عن بدائل للواقع الراهن، من خلال أشكال مقاومة إبداعية بديلة لما هو قائم، وبديلة كذلك لأشكال وطرائق العمل السياسي المنظم، التقليدية التي تعمل من خلال الدائرة الانتخابية فقط في صورة (الديمقراطية الانتخابية) التي وصل معها العمل السياسي إلى أفق مسدود، ودائرة مغلقة لم تؤد عملياً وفعلياً سوى إلى إعادة إنتاج نفس الأزمة بصورة مضاعفة ومركبة وإلى إعادة إنتاج نفس الطبقة السياسية الفاسدة، ونفس الخطاب , والإشارة إلى وصول العمل السياسي المنظم المعارض «والديمقراطية الانتخابية» إلى أفق مسدود لا يعني رفض هذا الشكل من الكفاح السياسي وأن لا جدوى منه على الإطلاق، على أنه في ظل الوضعية الراهنة وشروطها المأزومة سياسياً ووطنياً وتاريخياً لن تقود سوى إلى الكارثة، مع أن قطاعاً واسعاً من قاعدة وبعض قيادات أحزاب المعارضة - اللقاء المشترك - حاضرة وموجودة في قلب هذا الحراك ، داعمون ومتضامنون ومشاركون بالفعل في إدارته ولكنهم لا يدعون قيادته - كما أشار إلى ذلك مراراً د. ياسين سعيد نعمان - فقد سبق الشارع في الوقائع الجارية المجال السياسي العام ليصنع فضاء سياسياً أكثر رحابة قد يدفع العمل السياسي المنظم (المعارض) إلى اتخاذ مواقف أكثر جذرية وصلابة في الارتفاع بمستوى أدائه السياسي والفكري والتنظيمي ، ويمكن هنا اعتبار أن الهيمنة الرسمية على دور منظمات المجتمع المدني، وخصوصاً تهميشه واحتكار دور النقابات والمنظمات الجماهيرية (العمال ، النساء، الطلاب ، الفلاحين) لعب دوراً مضاعفاً في إرباك, وإضعاف دور المجتمع المدني في رقابة الديمقراطية الانتخابية وتطويرها وجعلها أكثر فاعلية وعلاقة بإرادة الناس ومصالحهم. وهو الذي دفع بالشكل الإبداعي الجديد للحركة الاجتماعية الاحتجاجية إلى مقدمة الصفوف، إلى جانب القضايا والمطالب الحقوقية والسياسية التي تم تجاهلها طيلة أكثر من أربع عشرة سنة، بعد الحرب على الجنوب من خلال تدمير الوحدة السلمية 22/مايو /1990م ، وحتى اللحظة ما يزال مضمون الحركة الاجتماعية الاحتجاجية السلمية جنوبي الطابع اجتماعياً وسياسياً، وتنظيمياً, تاركاً آثاراً إيجابية على واقع الحركة الاجتماعية في الشمال التي ما تزال تتحرك ببطء وتعبر عن نفسها في بعض المحافظات ضمن الخصوصيات والحاجات والهموم التي تواجهها ساحة الشمال. وبسبب ذلك الدور والمكانة الصاعدتين للحركة الاجتماعية السلمية وآثارها الإيجابية سياسياً ووطنياً، بادرت السلطة القمعية إلى أعمال التنكيل بقياداتها ، ومطارداتهم واعتقال المئات منهم، واعتقال الرموز السياسية القيادية الداعمة والموجهة للعملية الاحتجاجية السلمية في الجنوب ونقلهم إلى صنعاء جميعاً دون تهم فعلية خارج الدستور والقوانين النافذة، والإعلان عن بدء محاكماتهم صورياً .

البدايات الأولى:

> على خلفية حرب 1994م التي عطلت جوهر ومضمون دولة الوحدة وعلى الآثار والنتائج التي سبق الإشارة إليها، بدأت الخطوات الأولى لحركة تململ واضطراب، وعدم اتفاق مع ما آلت إليه الأوضاع بعد الحرب، وكانت البداية الأولى تمثلت في إصدار قيادة الحزب الاشتراكي الباقية في البلاد بعد حرب 94م بياناً أدانت فيه الحرب وأدانت الانفصال، واعتبرت الانفصال نتيجة من نتائج الحرب.

وفي دورة اللجنة المركزية بعد الحرب في 6-8 سبتمبر 1994م طرح شعار إصلاح مسار الوحدة، وإزالة آثار الحرب، ولم يجد آذاناً صاغية مع هدير صوت المدافع والدبابات، وقدم علي صالح عباد مقبل دراسة مطولة نشرت على حلقات في صحيفة «الثوري» بعنوان «المصالحة الوطنية» وكان مضمونها يؤكد على فكرة إصلاح مسار الوحدة وإزالة آثار الحرب والدعوة لإعادة بناء النظام السياسي على أساس المواطنة، والشراكة، والمشاركة على أن خطاب الحكم صمَّ آذانه ورفض أي دعوة للمصالحة وللمشاركة والشراكة، وحل مشاكل وقضايا الناس التي ظلت تعتمل لأكثر من أربع عشرة سنة، دون مجيب، وكما أشار د. صالح علي باصرة حول هذه المسألة مؤخراً «لو كان هناك استكشاف مبكر واستشارة صحيحة وناس ناصحون نصائح لوجه الله والوطن كان فعلاً عولجت المشاكل .. حقيقة مشاكل كل المتقاعدين ما كان المفروض أن تعالج اليوم، كان من المفروض أن تعالج في 1994م».

ويشير إلى هذا المعنى النائب البرلماني المؤتمري علي العمراني حين قال:

«القضية طرحت حتى في البرلمان منذ فترة طويلة، وكانت الاستجابة غير بناءة».

> كان المنتظر أو المتوقع أن تكون عدن هي فاتحة الكفاح السلمي والاحتجاج المدني الديمقراطي باعتبارها حاضنة المدنية، والمواطنة، والحداثة والتقدم والنهضة في اليمن وباعتبارها كذلك وريثة الكفاح المدني السلمي، ومؤسسة على قاعدة مدنية واسعة، على أن النداء أو الاستجابة الأسرع جاءت من حضرموت، ويبدو أن حالة العسكرة الشديدة للحياة المدنية في عدن, والمجتمع المدني وتطويقها أمنياً وعسكرياً بصورة لا مثيل لها جعل حالة التفاعل لرفض ما يجري يتأخر قليلاً ، فقد كان التركيز الأمني والاستخباري على أم وقلب المدن اليمنية عدن أكبر من طاقتها وقدرتها على احتماله، ناهيك عن توقعه بالصورة التي جرت، ولحضرموت تاريخ دولة، وتاريخ حضاري مدني ومستوى الوعي والتنظيم الاجتماعي فيها أعلى وأكثر مدنية، والتكوين العصبوي والقبلي فيها ضعيف، - كما أن ظاهرة السلاح ، والثارات، والحروب القبلية ، كان قد تم القضاء عليها في جميع محافظات الجنوب قبل الوحدة - وهو ما يميز حضرموت وعدن تحديداً عن غيرهما من محافظات الجنوب لذلك كانت حضرموت سباقة في تعبيرها المدني ، والاجتماعي السلمي في صورة التظاهرة الكبيرة التي خرجت فيها احتجاجاً على الحرب، ونتائجها ، وكانت أول مسيرة سلمية تخرج في حضرموت وفي كل الجنوب - بعد حرب 1994م - , وتحديداً حول ما كان يسرب ويشاع عن إمكانية تقسيم حضرموت التي أفضت إلى تشكيل لجنة الدفاع عن وحدة حضرموت برئاسة حسن باعوم، وكانت أول مسيرة سلمية تخرج في حضرموت تعبيراً واحتجاجاً لرفض ما يجري في تاريخ 27/4/98م, أدى استخدام الرصاص الحي فيها إلى سقوط الشهيدين فرج بن همام، وأحمد عمر بارجاش، وجرح ثلاثة آخرين، وبعدها بفترة قصيرة وبتاريخ 5/5/1998م خرجت مسيرة سلمية في مودية / أبين تم قمعها بالقوة المسلحة وقد تميزت الضالع وتشكيل اللجنة الشعبية فيها بالعنف والمواجهات المسلحة بين المواطنين واللواء 35 مدرع أدى إلى قصف منطقة زبيد / الضالع ، دام لثلاثة أيام، وبعدها بدأت اللجنة الشعبية تأخذ طابعاً جماهيرياًً، شعبياً، وسياسياً حيث دخلت الأحزاب السياسية طرفاً مباشراً في العمل الجماهيري والسياسي السلمي في منطقة الضالع، وتحددت مطالب اللجنة الشعبية في الضالع بالتالي:

1- الإفراج عن المعتقلين في السجون.

2- إزالة المواقع العسكرية المستحدثة.

3- منع الجيش «اللواء 35» مدرع من التدخل في حياة المواطنين العامة.

4- محاكمة من قاموا بإطلاق الرصاص والقتل.

وخلال الفترة 1998م - 2000م قامت الأجهزة الأمنية بتصفية عدد من الناشطين السياسيين والحزبيين في محافظة الضالع، وحملات واسعة من الاعتقالات من ضمنهم رئيس اللجنة الشعبية د. أمين صالح محمد ونائبه العقيد سيف علي صالح قضوا شهوراً عدة في معتقلات السلطة بين الضالع، وعدن، وصنعاء.

> عادت بعدها حضرموت إلى صدارة الفعل الاجتماعي الاحتجاجي المدني من خلال تنظيم مسيرة في (غيل باوزير) بتاريخ 27/4/2000م إحياء لذكرى قمع المسيرة السلمية في حضرموت والتي استشهد فيها فرج بن همام ، وأحمد عمر با رجاش، ، بعدها بدأ تشكيل اللجان الشعبية، وصدر بيان باسم اللجنة الشعبية في عدن، نشرته صحيفة «الأيام»، احتوى على رؤية سياسية ومطالب حقوقية وسياسية وقانونية أكد فيه «على ضرورة البحث الجدي في قضية آلاف الكوادر والمواطنين والعمال الموقوفة عن أعمالها منذ حرب 1994م سماهم البيان جماعة (خليك بالبيت) وهم الذين وصفهم البيان أنهم أوقفوا عن أعمالهم دون قرارات إدارية أو تأديبية، وهؤلاء الكوادر والكفاءات والموظفون والعمال، يشكلون جزءاً مهماً في التركيبة الحقيقية للمجتمع ويعيشون ظروفاً صعبة ( نتيجة سياسة الأجور ) التي لا تفي بحاجة الأسرة في حدها الأدنى، وأشار البيان إلى الارتفاع المضطرد في أسعار استهلاك الماء والكهرباء ودعا إلى إعادة الموقوفين مدنيين وعسكريين من أبناء المحافظة إلى أعمالهم والاحتفاظ بكامل حقوقهم الوظيفية وعلاواتهم ودرجاتهم، وأكد البيان على أن هذا التوقيف غير قانوني ويظل انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان، وختم البيان بالقول.. ظل النهب والاستيلاء والاستحواذ على الأراضي ممارسة مستمرة في وقت يجري فيه حرمان أبناء هذه المحافظة كلياً من هذه الحق، تعرضت بعده منازل قيادة اللجنة الشعبية للمداهمات، والمطاردات، والاعتقالات، وتوالت بعدها بيانات اللجنة بين آونة وأخرى وفي تاريخ 6/6/2000م تم إشهار اللجنة الشعبية لمحافظة أبين، وأصدرت بياناً تضمن احتجاجاً حول الحرب ونتائجها ومع أن شعار وفكرة إصلاح مسار الوحدة وإزالة آثار الحرب، هو شعار أقره وتبناه وطرحه الحزب الاشتراكي منذ ما بعد حرب 94م .

لقد تجاهل النظام مطالب وهموم وقضايا الناس في الجنوب، وأمعن في إذلال الناس، وعسكرة الحياة المدنية، إلى جانب تحويل كل أرض الجنوب إلى ملكية خاصة وعطايا وهبات، ولم يأبه لمطالب المقاعدين والمسرحين قسراً، والمحالين إلى قسم الفائض أو (خليك في البيت)، وجميعهم كوادر دولة الجنوب السابقة، بعد أن جرى حرمانهم من كافة حقوقهم وواجباتهم ومستحقاتهم، حتى وصل عددهم إلى أرقام خيالية تتجاوز المائتي ألف مقاعد ومسرح، ومبعد عن الوظيفة وهم جيش وأمن وموظفو دولة الجنوب السابقة، التي جرى الانقضاض عليها بعد حرب الفيد على السلطة، والثروة، والأرض وجميع الممتلكات العامة، والخاصة، وطيلة أكثر من أربعة عشر عاماً والنظام يرفض التعاطي مع مشاكل وقضايا وحقوق هذه المجاميع الكبيرة في القطاع العسكري والأمني، والمدني وفي مايو 2007م بدأت قضية المقاعدين العسكريين والأمنيين والمدنيين والمسرحين قسراً من أعمالهم تتفاعل ويتصاعد أمرها، وهم قيادات عسكرية وأمنية عليا، وضباط وجنود أحيلوا إلى التقاعد أو فصلوا من الخدمة وحولوا إلى قسم الفائض (خليك في البيت) وجميعهم جنوبيون، وبدأوا تنظيم أنفسهم في إطار جمعيات للمتقاعدين في جميع المحافظات انطلاقاً من عدن، وسعوا إلى تأطير أنفسهم في شكل تنظيمي جامع لهم : أسموه مجلس التنسيق الأعلى لجمعيات المتقاعدين العسكريين والأمنيين، والمدنيين، وشاركت فيه قيادات وضباط من خمس محافظات حركوا المياه الراكدة حيال ما اعتبر إجراءات قسرية بحق جيش وأمن، وموظفي دولة الجنوب السابقة (...) وشملت الإحالة على التقاعد والتسريح - أرقام كبيرة- وهو سيطرة للقيادات العسكرية الشمالية على السلطة والثروة وإزاحة الجنوبيين من الوظيفة ومركز القرار».

وحول الرقم النهائي للمقاعدين والمسرحين والمفصولين والمحالين إلى قسم الفائض هناك أرقام مختلفة ومتباينة، يرى أحد قيادات جمعيات المتقاعدين أو المقاعدين «أن ما تم حله من مشاكل المقاعدين لا يتجاوز 7%»، ويرى آخر «أن من تظلموا لدى اللجان الرسمية لا يتجاوز نسبتهم 18%، ناهيك أن هناك من رفضوا طريقة التظلم، وأن القطاع الأكبر لم تلامس قضيتهم» ، وهناك رواية أخرى لواحد من كبار الاختصاصيين في شؤون التأمينات يشير «أن مجلس النواب صادق على قانون صندوق الخدمة في بداية 2004م م والذي على خلفيته وحده سرح 70.000 عامل وعاملة، وجرى إحالة 30.000 من قطاع الدولة المدني إلى التقاعد طوعاً وقسراً، وأن الذين أضيفوا إلى التقاعد عام 2004م- 2005م وصل إضافة إلى السابق ذكرهم 60.000 وكل هؤلاء عددهم 160.000 عامل وعاملة وموظف ورد ذكرهم في تقرير الحكومة المقدم إلى اللجنة الدولية لحقوق الإنسان من أجل بيان مدى جدية الدولة في الإصلاح الاقتصادي وحرصها على معيشة هؤلاء عبر صندوق الخدمة لإعالتهم» .

وتشير بعض التقارير الإحصائية التقديرية وبعض الكتابات الصحافية المتابعة لمشكلة وقضايا المقاعدين أن نسبة المحالين إلى التقاعد من مدينة عدن وحدها يصل إلى حوالي 60% من إجمالي نسبة المقاعدين، والمسرحين، و (خليك في البيت)، وهو في تقديرنا أمر خطير يعكس ويفسر واقع البؤس المعيشي والمادي الذي يعيشه سكان مدينة عدن التي يعتمد أبناؤها وسكانها على الوظيفة العامة، وحماية دولة الرعاية التي كانت قبل الوحدة وقبل الحرب، وليس فيها ازدواج وظيفي، وهي الظاهرة التي لم تعرفها الدولة في الجنوب سابقاً . يضاف إلى ذلك تجميد المنطقة الحرة فيها، وتعويق النافذين للحركة الاستثمارية كما في كل البلاد.

وهناك أرقام عديدة حول إحصائيات المقاعدين والمسرحين وقسم (خليك في البيت) كما تطلق عليهم بعض الكتابات، المهم أن العدد الإجمالي من المسرحين والمقاعدين عسكريين وأمنيين، ومدنيين، وفي جميع قطاعات الدولة في الجنوب بمؤسساتها المختلفة الزراعية، والصناعية، التجارية، والمالية، والعسكرية، والأمنية يتجاوز قطعاً المائتين وخمسين ألف شخص. وهنا تكمن المشكلة وصعوبة الحل لها، شأنها شأن مشكلة الأراضي، وهي مشكلة اعقد وأخطر ومن الصعب حلها عبر القرارات الجمهورية واللجان التي وصلت حتى الآن إلى ثلاث لجان، لجنة عبد ربه منصور، ولجنة د. صالح علي باصرة ، ولجنة د. يحيى الشعيبي، والوحيدة التي توصلت إلى تقرير جريء وشجاع هي لجنة صالح باصرة التي قدمت تقريراً حول ذلك يصل إلى ( 300) ثلاثمائة صفحة ما تزال سرية ( لم يعلن عنها) واكتفى د. صالح باصرة بالقول حول ذلك في مقابلة مع موقع نيوز يمن أن هناك خمسة عشر نافذاً استولوا على مجموع أراضي دولة الجنوب وأن هناك نافذاً يسيطر على ألفي فدان، فيما مواطن ينظر من النافذة ولا يملك قطعة أرض 15×15، وأشار أحد أقطاب الحكم, وزير الحكم المحلي عبد القادر هلال أن هناك خمسة متنفذين هم من يحتكرون قضية الأرض أو ما في معناه .

ومعظم خطاب جمعيات المتقاعدين والمقاعدين والمسرحين يركز عموماً على هاتين القضيتين باعتبارهما جوهر قضية السلطة والثروة التي قامت على خلفيتها حرب 1994م، ولا يكاد يخلو بيان، أو احتجاج واعتصام أو مهرجان من الإشارة إلى هذه القضايا والمشكلات التي قد تفجر الوضع في البلد كله، ما لم تقدم حلول عملية وجذرية ضمن مشروع سياسي وطني متكامل، وهو حقاً ما يعجز عنه النظام القائم، وستبقى القضية في حالة تصاعد، وتطور ولا نملك إجابات حول إمكانات حلها في المستقبل مع استمرار الأوضاع القائمة كما هي, وعلى حالها. بعد أن فشلت المعالجات الفردية، والجزئية، وسقطت الحلول الأمنية والعسكرية، ومنذ 7/7/2007م يمكن القول: إن الحركة الاجتماعية الاحتجاجية أخذت منحنى تصاعدياً, على أنها ما تزال تحافظ على طابعها السلمي وعلى مضمونها الديمقراطي، لقد اختار المقاعدون والمسرحون جيش (خليك بالبيت) يوم 7/7/2007م يوماً للاحتجاج والاعتصام السلمي واختيار الذكرى/ المناسبة أو اليوم يحمل دلالة سياسية لإدانة هذا اليوم، وهذه الذكرى, باعتبارها رأس البلاء وسبب الكارثة الوطنية والاجتماعية والسياسية التي يعيشها الجنوب تحديداً وكل البلاد, إن دلالة اختيارهم ليوم النصر العسكري, يوم الحرب، هو محاولة للانتصار عليها سياسياً ودحضها وطنياً.

ومنذ يوم 7/7/2007م تحولت جميع المناسبات والذكريات والأعياد إلى مناسبات ومهرجانات سياسية وجماهيرية تقودها جمعيات المتقاعدين العسكريين الأمنيين والمدنيين, لقاءات التسامح والتصالح، وجمعيات شباب بلا عمل، والعاطلين عن العمل وجمعيات ولجان مناضلي الثورة وحرب التحرير، والجمعيات التعاونية الزراعية وعشرات اللجان والجمعيات التي لا يتسع المجال هنا لذكرها.

تحول يوم الجيش 1/9/2007م إلى مهرجان سياسي وجماهيري كبير حضره عشرات الآلاف، حاول تحويل المناسبة إلى قضية سياسية ووطنية جنوبية, رفضاً لواقع الضم والإلحاق والسلب والنهب لكل ما في الجنوب ودعوة لاستعادة دور ومكانة الجيش الوطني الجنوبي في دولة الوحدة.

ولم تتوقف المهرجانات والمناسبات الاحتفالية في جميع محافظات الجنوب بمناسبة وبدون مناسبة، تصعيداً للموقف الاحتجاجي لعدم الاستجابة لحل مشاكل الناس بعد أن دخلت جميع أطراف المجتمع , طبقاته, وشرائحه وفئاته الاجتماعية المختلفة طرفاً في مواجهة الغبن والقهر الذي لحق كل الجنوب بعد أن حولها دار حرب، وفيد وغنيمة، ومن أهم الاحتفالات والمهرجانات الجماهيرية التي تحولت إلى تظاهرات شعبية وسياسية وطنية جنوبية لرفع الظلم الواقع على الجنوب: الذكرى الرابعة والأربعون لثورة 14 أكتوبر ، وذكرى الاستقلال الوطني 30 نوفمبر 1967م، وذكرى كارثة الثالث عشر من يناير 1986م التي تحولت الى يوم للتسامح والتصالح والتضامن .

ويمكن إجمال أهم الفعاليات التي صارت تشكل في مجموعها وتعدد أسمائها معنى وصورة للقضية الوطنية اليمنية الجنوبية مع أن بعضاً منهم يؤكد على الخصوصية الجنوبية ويرفعها إلى مصاف المطلق، وبعضهم لا يتحدث عن التسمية (اليمنية) وهي في تقديرنا ليست أكثر من حالة رد فعل ، وكأن اليمن هو الشمال ، أو سلطة الشمال القائمة اليوم ، وكأنها قائمة أبداً ولن تزول تحت كفاح الناس السلمي والديمقراطي ، أو تحت أي ظرف من الظروف - عموماً فإن إجمالي هذه الفعاليات يمكن تحديدها في التالي:

1- جمعيات المتقاعدين العسكريين والأمنيين والمدنيين في صورة مجلس تنسيقهم الأعلى .

2- لقاءات التسامح والتصالح والتضامن التي بدأت أولى خطواتها من لحظة إعلان جمعية أبناء ردفان ، التي تم حلها بالقوة الأمنية ، إلى لقاءات حضرموت في صورة مشروع وثيقة أسميت الوثيقة الوطنية المقدمة للملتقى الوطني للتصالح والتسامح والتضامن في محافظة حضرموت المنعقد في مدينة المكلا بتاريخ 22 مايو 2007م والتي اتخذت من ذكرى 13 يناير يوماً للتسامح والتصالح والتضامن وجاءت الوثيقة في صورتها التي ظهرت بها ، لتقدم تتويج نظري وفكري سياسي لهذه القضية بهدف تجاوز كل تاريخ الصراعات السياسية والحروب الداخلية التي شهدتها المحافظات الجنوبية والشرقية، ضمن دولة الجنوب السابقة وما قبلها، وأصبحت لقاءات التسامح والتصالح والتضامن ظاهرة تعم كل الجنوب من أقصاه إلى أقصاه، للخروج من نفق الحروب والتقاتل، والتأكيد أن لا مناص غير تأسيس ثقافة بناء المجتمع الجديد القائم على التسامح والتصالح والحوار.

3- جمعيات شباب بلا عمل، وهي قائمة ومنتشرة في جميع المحافظات والمديريات والمناطق الجنوبية.

4- جمعيات عاطلين عن العمل، ولها حضور وممثلون في جميع المحافظات الجنوبية.

5- منظمة مناضلي الثورة وحرب التحرير.

6- جمعيات الدفاع عن الأرض (الأرض والذاكرة) .

7- جمعيات الزراعيين أو مجلس تنسيق الجمعيات الزراعية وعدد المشتركين فيها أكثر من سبعة وعشرون ألف عضو والجمعيات تمثل أبين ,لحج.

8- جمعية الدبلوماسيين المسرحيين .

ومعظمها إن لم أقل جميعها لها فروع في جميع المحافظات الجنوبية والشرقية، وجميعها تؤكد على جوهر ومضمون القضية الجنوبية أو الهوية الجنوبية الوطنية اليمنية . وليس هناك خطاب سياسي أو مشروع سياسي تم الاتفاق عليه في صورة برنامج أو وثيقة فكرية سياسية تم إخراجها والإعلان عنها والاتفاق حولها ، على أن القضية الجنوبية هي السؤال المفتوح الذي يجمع الأطياف المختلفة على تعدد رؤاهم وطرائق نظرهم وتفكيرهم تجاه هذه القضية وحلها، ومن المهم الإشارة هنا إلى أن الفئة العمرية للقاعدة الاجتماعية للحركة الاحتجاجية السلمية في الجنوب هي من الفئة العمرية الشابة حيث إن أكثر من 75% منهم من فئة الشباب وهذه النسبة من الفئة العمرية الشابة في الحركة الاجتماعية السلمية , قد يحمل في داخله دلالة خطيرة على واقع الاحتمالات المستقبلية لدولة الوحدة القائمة .

لقد تحولت المناسبات يوم الجيش الجنوبي 1/9/2007م والذكرى الرابعة والأربعون لثورة 14 أكتوبر 1963م ، ويوم الاستقلال الوطني 30 نوفمبر 1967م وذكرى 13 يناير 1986م وقبلها جميعاً ذكرى الحرب الأليمة والمذلة ، 7/7/1994م...، تحولت جميعها إلى مناسبات جماهيرية وشعبية - وشعبوية - تقودها الحركة الاجتماعية الاحتجاجية للإعلان عن مواقفها ورفضها للسياسات القائمة التي يرون فيها إعادة لإنتاج نظام الجمهورية العربية اليمنية بكل تفاصيله ونقله إلى الجنوب، أي شمللة الجنوب ، وهي مهرجانات يشارك في العديد منها مئات الآلاف من المواطنين حتى أن الذكرى أو المناسبة الواحدة يجري الاحتفال بها في أكثر من محافظة ومديرية ومنطقة وفي أوقات متزامنة ، ونستطيع القول إن المهرجانات التأبينية للشهداء القتلى في المهرجانات والمناسبات المختلفة أصبحت مهرجانات موازية بل وأكثر من المهرجانات الأولى حيث يوم التأبين والدفن للشهداء يأتي أعظم وأكبر, حتى تحولت الأيام المختلفة في الجنوب إلى مناسبات واحتفالات جماهيرية وأيام تأبين للشهداء القتلى في الاعتصامات, وأصبحت تقضُّ مضاجع الحكم ويعتبرها النظام معوقة للتنمية والاستثمار، ويصفها بالعمالة والخيانة، والفوضى، ولا يتوقف خطاب الحكم وأعوانه عن وصف الحركة الاجتماعية الاعتصامية السلمية بأسوأ وأقذع النعوت والأوصاف، وأنها أعمال مفتعلة هدفها التخريب تقوم بها شرذمة محدودة من الأفراد والمجاميع ولم تتوقف كلمة «الثورة»، الصحيفة الرسمية وصحيفة الجيش «26 سبتمبر» طيلة السنة الماضية وحتى اللحظة، من شن حملة إعلامية وسياسية مضادة للحركة الاجتماعية الاعتصامية والاحتجاجية السلمية، إلى جانب صحف الحزب الحاكم، والصحف الممولة من الأجهزة الأمنية. ولم تجد السلطة من وسيلة لمواجهة الحركة الاجتماعية سوى بالقمع والحصار، والغاز المسيل للدموع، وبالرصاص الحي، ولم تنجُ فعالية من قتل المعتصمين فيها، من قتل المعتصمين في حضرموت تاريخ 1/9/2007م إلى قتل المعتصمين في الضالع 10/9/2007م، إلى قتل المعتصمين في المهرجان الجماهيري للذكرى الرابعة والأربعين لثورة أكتوبر 1963م في ردفان، وقبلهما كان قتل المعتصمين في ساحة الحرية في خور مكسر عدن 20/8/2007م.

ومن شعارات المهرجانات الاحتفالية هناك شعارات تحمل عنوان قضية تقرير المصير كخيار سياسي ، وشعارات تؤكد على الهوية الجنوبية باعتبارها خصوصية مطلقة .

أستطيع القول: إن البلاد اليوم تعيش أوضاعاً كارثية على كافة المستويات أنتجت في الواقع ثلاثة أشكال من الاحتجاجات على السياسات القائمة:

1- الشكل الأول : هو حرب صعدة التي ولدتها سياسات النظام بفرضها خيار القوة والحرب، والحسم العسكري، وهي الحرب التي تدخل عامها الخامس، قال عن خسائرها رئيس جهاز الأمن القومي علي الآنسي في بيانه أمام مجلس النواب والشورى: إنها وصلت إلى أكثر من 600 مليون دولار، أما عدد القتلى والجرحى فهم بالآلاف. وماتزال حتى اللحظة مشتعلة حربها ويتصاعد عدد قتلاها من العسكريين والمدنيين، دون أفق لحل سياسي واقعي .

2- الشكل الثاني : هي التقطع المسلح، وقطع الطرق والاختطافات، واحتجاز ناقلات النفط والغاز، والاعتداء على الأملاك العامة، وصولاً إلى التعرض بالأذى لبعض وسائل النقل الخاصة، باختصار هذه هي أشكال احتجاج عنفية يقوم بها بعض اليائسين وقطاع الطرق، وبعض من لم تُنصفهم الدولة والقضاء، والذين وإن تحصلوا على أحكام قضاء للحصول على حقهم فإنهم لايجدون من ينفذها كون الأحكام ضد متنفذين أو قريبين منهم. وهي عموماً أحكام لا يتم تنفيذها .

3- الشكل الثالث: هو شكل الحركة الاجتماعية الاحتجاجية الاعتصامية السلمية:

وهو الشكل الذي أبدعته الحركة الجماهيرية السلمية المختلفة في المحافظات الجنوبية والشرقية، أنتجها الشارع المدني السلمي بصورة واعية ومنظمة، ومستقلة عن أي إرادة خارجية وعلى طريق الحصول على حقوقها الاجتماعية والمدنية والسياسية وهو الشكل الذي يصفه خطاب الحكم بأنه عصا أو أداة تلوح به المعارضة وأحزابها ضد السلطة حيناً ، وهو حيناً, طابور خامس للانقلاب على الوحدة والجمهورية، والديمقراطية، وعلى النظام برمته، وهو خطاب تهويلي تخويني ، للفعل والنشاط السياسي والاجتماعي المدني الذي تقوده الحركة الاجتماعية في المحافظات الجنوبية يتم مواجهته بالقمع الوحشي، وصولاً إلى قتل المعتصمين بدم بارد في كل عملية احتجاجية سلمية، وحصار وتطويق أماكن ومواقع المهرجانات بالجيش والشرطة، وقطع الطرق واحتلال الشوارع والمساكن وإنزال الآلاف من الجنود المدججين بالأسلحة، ونزول الدبابات والمدرعات ، وتحليق طائرات الهيلوكيتر في أجواء المدن ومواقع المهرجانات بصورة تذكرنا بشكل حربها الجارية في صعدة، وأقل مما تواجه به المجاميع المسلحة المتمردة في المواقع المختلفة، ولا تفسير لدينا لهذه الطريقة التي تعد بها السلطة نفسها لمواجهة المهرجانات الجماهيرية السلمية، سوى أنها تريد قمع الفكرة والدلالة لمعنى الحركة الاجتماعية الاحتجاجية السلمية «فعندما تحاصر الشرطة تظاهرة- أو احتجاجاً مدنياً سلمياً وبهذه الطريقة - فهي لا تحاصر المتظاهرين - المعتصمين (..) بقدر ما تحاصر الدلالة التي يعطونها لتظاهرتهم، إن محاصرة الدلالة هنا هي وسيلة لتعطيل الفعل». وهو ما تستهدفه السلطة وأجهزتها الأمنية العليا. واعتقال المئات من جماهير الاحتجاجات السلمية، وأصحاب الرأي السياسي المعارض بتهم ملفقة ، إنما هو دليل على عجز الحكم عن تقديم معالجات جدية لما يجري ، ودليل أكبر وواضح على افتقاره لمشروع سياسي وطني لإنقاذ البلاد، بل إن السلطة تقف ضد تقديم أية معالجات سياسية وطنية جدية، وترفض كافة أشكال التعبير عن الرأي وتستخدم الحوار كورقة تكتيكية، لأنها لا تمتلك رؤية إستراتيجية لحل مشاكل البلاد، وتمارس سياسة تقطيع الوقت وبيع أوهام المبادرات بالإصلاح التي لم يتحقق منها شيء في الواقع. وكلما ازدادت الأزمة الوطنية الداخلية تعقيداً ضاعف الحكم من مبادراته الخارجية ، لحل مشاكل العالم العربي ، وداخله يعج بالصرعات والحروب الداخلية ، بما قد يؤدي إلى تفكك المجتمع وما تبقى من معنى للدولة .

وفي تقديرنا أن الحركة الاحتجاجية الاعتصامية السلمية التي غدت اليوم ظاهرة اجتماعية وسياسية ووطنية وإن كانت ما تزال منحصرة في نطاق المحافظات الجنوبية والشرقية إلا أنها بدأت تلقي بثمار ظلالها السياسية والوطنية على بعض اتجاهات الوطن في الشمال وقد تصبح، أو تتحول فيما لو توافرت لها بعض الشروط والمقومات البوابة الحقيقية والمدخل الفعلي لإنضاج مشروع سياسي وطني وديمقراطي وحدوي تاريخي يعيد للوحدة ألقها وبريقها ومضمونها الوطني والديمقراطي الذي عطلته حرب الفيد على السلطة والثروة وأجهضت الآفاق الوطنية والتاريخية لمشروع الوحدة السلمية ومع ذلك تبقى الحركة الاجتماعية الاحتجاجية السلمية في الجنوب البديل الحقيقي والواقعي لحل الأزمة السياسية والوطنية الراهنة، ولا معنى هنا لبدائل السلطة للخروج من الأزمة في صورة المبادرات الوهمية والفارغة من المعنى لإصلاح ما يفسده الحكم في كل يوم.

إن الحركة الاجتماعية الاحتجاجية السلمية هي التي تحمي اليوم الوحدة الوطنية وقد تقربنا تدريجياً من فكرة حقيقة الاندماج الوطني، وهي التي ستقود في طريق تطورها إلى حصول الناس على حقوقهم ومطالبهم الحقوقية والسياسية ، والوطنية، حتى الوصول إلى تغيير صيغة الحكم القائمة على الشوكة والغلبة والعصبية باتجاه إنتاج وتأسيس دولة المواطنة , دولة لكل مواطنيها، المهم أن يتراضى الناس في الوطن شمالاً وجنوباً على كلمة سواء وعلى أن يتم تجاوز محاولة حصر الحركة أو استغراقها ضمن المشاريع السياسية الصغيرة، ففي ذلك مقتلها الحقيقي. إن أعظم الإجابات الإبداعية والنوعية والتأريخية عن أسئلة الواقع والحياة المعقدة إنما تقدمها بكل بساطة وتواضع ودون أي ادعاء الحركة الاجتماعية الاحتجاجية السلمية في الجنوب وهي اليوم كشفت زيف الشعار الديمقراطي، والديمقراطية الانتخابية الكاذبة، ونستطيع القول: إن الحركة الاجتماعية الاحتجاجية في المحافظات الجنوبية والشرقية رغم أنها ما تزال في طور التشكل والتكون فقد أدخلت بعداً تنويرياً وسلمياً ومدنياً، جديداً على الثقافة العامة للسكان، بعيداً عن ثقافة العنف ، والسلاح والحرب وهي ثقافة جديدة وغريبة على سلطة 7/7/1994م، ثقافة لم تعهدها في كل تاريخها الدامي والحربي، وذلك هو ما يعطي للقضية الجنوبية الوطنية اليمنية، معناها ودلالاتها الإبداعية الجديدة التي أتمنى أن تفتح آفاقاً سياسية ووطنية وتاريخية جديدة تترك بصماتها الإيجابية على العقل السياسي الحاكم الرافض مغادرة ثقافة العنف ووضع القوة فوق الحق والعدل.

خلاصــة واستنتــاجات :

أستطيع القول: إن الحركة الاجتماعية الاحتجاجية السلمية في المحافظات الجنوبية والشرقية قد تمكنت من إنجاز التالي:

1- كسر حاجر الخوف وفتح باب المشاركة الجماهيرية واسعاً أمام ناس المجتمع.

2- استطاعت خلق تحالفات واسعة، تعاضد وتساند الحركة الاجتماعية الاحتجاجية السلمية.

3- رفعت مستوى الوعي والممارسة الديمقراطيين.

4- وسعت المجال السياسي وقلصت المسافة بين المجتمع (الشارع) والسياسة.

5- هي اليوم تؤسس لوعي الإصلاح والتغيير في الفكر السياسي، المهم أن يتحقق عمل تراكمي في هذا الاتجاه.

6- الحركة الاجتماعية الاحتجاجية السلمية هي أنجع الوسائل والأدوات لعدم دخول البلد إلى حالة الفوضى العامة والحرب.

7- كشفت الحركة الاجتماعية الاحتجاجية السلمية ضعف وعجز منظمات المجتمع المدني وموقفها السلبي من الحراك الاجتماعي السلمي الديمقراطي في الجنوب، وأظهرت أن هذه المنظمات مرتبكة ومضطربة بين خوفها من السلطة، وبين الدور الإبداعي الاجتماعي والسياسي الخلاَّق الذي تقوم به الحركة الاجتماعية الاحتجاجية السلمية، وإنها في الواقع أضعف من أن تقدم مساهمات جدية في بناء وتأسيس المجتمع المدني في واقع الممارسة وهي كشفت أن هناك فارقاً بين منظمات المجتمع المدني، وبين المجتمع المدني الذي تقوم الحركة الاحتجاجية بدور رائد وأساسي وفعلي في التأسيس له .

8-الحركة الاجتماعية الاحتجاجية الاعتصامية ليس من مطامحها ولا أهدافها الإطاحة بالنظام بالعنف المسلح ، بل الضغط عليه، والعمل باتجاه الإخلال بموازين القوى لصالح المجتمع للحصول على الحقوق المطلبية والمدنية ، والسياسية.

9- أكدت الحركة الاجتماعية الاعتصامية على تآكل مصادر شرعية النظام وضعفه وعجزه.

10-يؤكد القطاع الواسع والفاعل في الحركة الاجتماعية أن العلاقة مع الأحزاب ليست عدائية وتناقضية، بل علاقة تعاضد وتعاون وتنسيق وتكامل. وجاءت عملية الاعتقالات الواسعة الأخيرة لتؤكد هذا المعنى .

11- أكدت الحركة الاجتماعية الاعتصامية والاحتجاجية السلمية أن المشكلة ليست فقط بين السلطة والمعارضة بل بين القوى الحية والحديثة في المجتمع وبين السلطة .

12- الحركة الاجتماعية الاحتجاجية أعادت السياسة إلى المجال العام، وأدخلت قطاعات وشرائح واسعة من قوى المجتمع الصامتة إلى قلب المشاركة في الشأن العام.

13- أظهرت عجز السلطة عن مواجهة الحراك الاجتماعي المدني السلمي، وليس استخدام الرصاص لقمع وقتل المعتصمين سوى قمة الفشل .

14- تطور وتوسع نطاق الحركة الاجتماعية الاحتجاجية السلمية في الجنوب خلال العام الماضي والحالي تحديداً أضعف وقلل من حالة الصراعات الداخلية والثأرات ووسع من مساحة شعار التسامح والتصالح ومهرجاناته المختلفة ، وقارب بين أبناء المناطق أكثر ووحَّدهم حول شعار القضية الجنوبية الذي مايزال بحاجة الى بلورة وتطوير لمنهجه السياسي الفكري ليستوي على رؤية وطنية سياسية يمنية شاملة.

15- إن الحراك الاجتماعي الجماهيري السلمي مثَّل بعدي الوعي والتنظيم، وكشف عن قدر من العمل والمواقف المسؤولة تجاه المجتمع والوطن، من حيث التزامه بالدستور والقانون .

16- أكدت الحركة الاجتماعية الجماهيرية الاحتجاجية السلمية تآكل شرعية الحكم وأن البلاد بحاجة إلى صياغة عقد اجتماعي مدني ديمقراطي جديد، يتجاوز شروط ووقائع عقد الحرب الذي أنتج كل هذا الخراب والدمار الذي تعيشه البلاد.

17-الاستخلاص الأخير والمهم الذي يجب التنبيه له ، والعمل على التخفيف من وطأته هو أننا لا يمكننا إنكار الطابع الجنوبي الجغرافي - حتى اللحظة - للحركة الاجتماعية الاحتجاجية السلمية ..، وهي وإن كانت تلقى تعاطفاً وتجاوباً وتفاعلاً سياسياً ووطنياً واسعاً وعاماً ، من معظم قطاعات السكان في الشمال ، باعتبارها انعكاساً وتعبيراً عن أزمة وطنية بنيوية وتاريخية شاملة ، مطلوب تبلورها وتعميمها على كل الوطن ، على أن ذلك التعاطف والتضامن والمشاركة الوجدانية الداخلية لم تستطع أن تتحول إلى حركة سياسية اجتماعية عملية في واقع الممارسة إلا بحدود بسيطة جداً ، بفعل أولاً هيمنة البنية الاجتماعية التقليدية وإعادة إنتاجها بالحرب ، وثانياً هيمنة الفكر السياسي العصبوي الجهوي والقبلي ، للجماعة الممسكة بالحكم - على الأقل منذ حرب 1994م - وهو ما ترك بالضرورة انعكاساته الداخلية السلبية على اتجاهات تفكير قسم لا بأس به من قاعدة الحركة الاجتماعية الاحتجاجية في الجنوب إلى درجة عدم القدرة - عند البعض - على التفريق بين حكام السلطنة القبليين العسكريين وبين قوى المجتمع الواسعة في الشمال ، وهو ما يفسر حالة الانقسام الاجتماعي التي تزداد سعة بين الشمال والجنوب والتي تساهم سياسات السلطة في تكريسها وتعميقها .. وهي في تقديري عملية قد تؤدي إلى تدمير الوحدة الوطنية وتفكيك المجتمع ، وعند هذه اللحظة السياسية المأزومة من المهم أن تتضافر الجهود السياسية ، والمدنية المجتمعية ، والمنظمات الجماهيرية ، والنقابية والمهنية وغيرها ، للإمساك بجذر اللحظة السياسية الوطنية والتاريخية ، والنهوض بالمشروع السياسي الوطني اليمني ، قبل أن تجرفنا سياسات الحكم القائمة خارج بوصلة التاريخ الوطني كله ، وحتى تتحول القضية الوطنية الجنوبية إلى بوابة فعلية وحقيقية لإعادة إنتاج صياغة وجه الوطن اليمني الديمقراطي الموحد الذي عطَّلته الوحدة المعمدة بالدم والحرب منذ 7/7/1994م.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى