حمزة علي لقمان حكايات وخواطر من عدن

> «الأيام» نجمي عبدالمجيد:

>
الأستاذ حمزة علي لقمان المؤرخ والباحث وأحد الأعلام الثقافية في تاريخ عدن الحديث، وسليل أسرة لها مكانتها الخالدة في النهضة الكبرى التي شهدتها هذه المدينة في عصر ازدهارها، وهو المرجعية التي كتبت عن عدن سطورها من الخلود في ذاكرة الزمان حيث لاتزال أعماله التاريخية تعطي لنا صورة عن عدن والحقب والأحداث التي مرت عليها، وتعاقب المراحل.

وكل عودة لكتابات حمزة علي لقمان، نكتشف فيها ما خفي من تاريخ عدن وأهلها، لذلك عرف في زمانه بلقب (المؤرخ العدني)، وهو الذي قدم العديد من الإجابات عن عدن وتاريخها، حيث أدرك أهم الوقائع مثلما عرف أبسط الأمور، وكان في هذا المجال لايقف عند حدود البحث في المراجع، بل يعتمد على النزول الميداني إن كانت خاصية الكتابة تقتضي ذلك.

وهذه وقفة أخرى لنا مع القامة العدنية الخالدة ورحلة في صفحات التاريخ ومشاعر الذات، كلمات حمزة علي لقمان المؤرخ للحدث، وحمزة علي لقمان في بعض خواطره والحوار مع النفس، ولنا في هذا فكر مازال يعلم، ومعرفة لن تقفل أبوابها، وطريق إلى عدن تقول: العالم مر من هنا.

عدن الصغرى والمصافي

في العدد 11 من مجلة «فتاة شمسان» الصادر يوم الثلاثاء 1 نوفمبر 1960 الموافق 12 جماد أول 1380هـ السنة الأولى يرد الأستاذ حمزة علي لقمان على عدة أسئلة، وهذا هو نص المادة التاريخية: «سألناه: نريد أن نسـألك اليوم عن ناحية من تاريخ عدن الحديث، وربما أن صناعة الزيت في عدن من أهم الأحداث التاريخية في هذه البلاد، ولكن قبل أن نسألك عنها نريدك أن تقدم لنا فكرة عن عدن الصغرى وموقعها.

فأجاب: عدن الصغرى جزء من أرض قبيلة العقارب التي تمتد من البقعة التي تقع فيها بير أحمد حتى رأس عمران من ناحية البر ومن مقربة من قرية الحسوة إلى قرية بير فقم من ناحية الساحل.. وكانت أرض العقارب تتكون من بير أحمد العاصمة ومن الحسوة وجبل احسان والبريقة والغدير وفقم حتى اشترتها حكومة عدن من الشيخ عبدالله بن حيدرة بن مهدي علي العقربي في 23 يناير 1863.

سألناه: وبكم اشترت حكومة عدن منطقة عدن الصغرى من شيخ العقارب؟

قال: بثلاثة وثلاثين ألف ريال نمساوي.

سألناه: يعني من الريالات التي تستعمل في اليمن هذه الأيام؟

فأجاب: نعم واسمها ريالات ماريا تريزا.

قلنا: طيب قل لنا لماذا سموا هذه القبيلة (العقارب)؟

فأجاب: لأن جدهم الأكبر هو عقارب بن ربيعة بن سعد بن خولان بن الخاف بن قضاعه بن مالك حمير بن سبأ.

سألناه: طيب شكرا، والآن حدثنا عن عدن الصغرى، وأول مصنع فيها وهي مصافي الزيت.

فأجاب: الحقيقة إن أرض العقارب عرفت المصانع ودخان المصانع قبل بناء مصافي الزيت بـ 800 سنة.

قلنا: ومتى كان ذلك؟

فأجاب: بين سنة 1173 وسنة 1183 ميلادية في أثناء حكم عمر بن علي الزنجبيلي الذي بنى مدينة الأخبة (واسمها الآن بير أحمد) وبنى فيها مصنعا للزجاج ومصنعا للآجر.

سألناه: طيب والآن أخبرنا عن مصافي الزيت في عدن الصغرى.

فأجاب: لقد منحت حكومة عدن شركة الزيت البريطانية المعروفة باسم (BP) المنطقة المعروفة باسم عدن الصغرى بموجب عقد (ليز) مدته 99 سنة لأجل بناء مصافي الزيت وما يتبعه.

سألناه: ومتى بدأ بناء المصافي ومتى انتهى؟

فأجاب: بدأ العمل في بناء المصافي في 1 نوفمبر سنة 1952، وانتهى في 29 يوليو سنة 1954.

قلنا: وكم كان عدد العمال الذين عملوا في ذلك؟

فقال: كان عدد العمال والموظفين 2500 بريطاني وأمريكي من الفنيين والإداريين وعشرة آلاف من العرب والصومال والهنود.. أما اليوم فإن عددهم حوالي 300 بريطاني و1750 من العرب والصومال والهنود، وهناك عدد لابأس به من الموظفين اللبنانيين والإيطاليين.

قلنا: ومما تتكون مصافي الزيت؟

فأجاب: أهم ما في عدن الصغرى معملان كبيران كل منهما يمكن أن ينتج 250 مليون طن من الزيت كل سنة، أي أن المعملين يمكن أن ينتجا خمسة ملايين طن في السنة، ومن هذه الكمية تمر مليونا طن في السنة في أنابيب طولها 19 ميلا تمتد من عدن الصغرى إلى مركز التوزيع لشركة (BP) في التواهي لتموين السفن.

سألناه: وكم كلف بناء هذه المصافي الضخمة؟

فأجاب: لقد كلف بناء المصافي حوالي 900 مليون شلن (45 مليون جنيه) وتم البناء في 21 شهرا.

قلنا: لقد كنا في وقت بناء المصافي نسمع أصوات الانفجارات فما كان سببها؟

أجاب: كانوا يستعملون الديناميت في تفجير الجبال، وقد أمكنهم أن يستخرجوا مليونا و500 ألف طن من الصخور من هذه الجبال لاستعمالها في البناء وفي ردم البحر.

قلنا: وهل استعملوا الصخور فقط في ردم البحر؟

فرد: إلى جانب الصخور استعملوا الرمال، كما أن الحفارات البحرية تمكنت من حفر البحر وقذفت برماله إلى الساحل وكانت كمية رمال البر التي أزاحوها تبلغ حوالي مليوني ياردة مكعبة، وكل ذلك لكبس 200 فدان كانت بحرا فصارت برا، بنوا عليه دكة كبيرة يمكن أن ترسو فيها سفن الزيت حمولة 36 ألف طن.

سألناه: وما هي أهم المواد التي استعملت في بناء المصافي؟

فقال: أهم المواد التي استعملت في بناء المصافي هي الحديد والإسمنت والحجارة، وقد ذكرت لك أنهم استخرجوا مليونا و500 ألف طن من صخور الجبال، أما الإسمنت فكانت كميته 30 ألف طن، والحديد والصلب فكانت 110 آلاف طن.

قلنا: هذه أرقام هائلة جدا تذهل العقول! بقى أن نسألك عن الماء. لاشك أنهم يستعملون كمية كبيرة منه، فمن أين يحصلون عليه وكم هي الكمية؟

قال: لقد حفرت شركة (BP) ستة آبار في بير أحمد تمون عدن الصغرى بأربعة ملايين جالون من الماء في الساعة الواحدة، وهذه كمية تكفي لتموين مدينة يبلغ عدد سكانها مليون نسمة وأكثر بينما سكان عدن الصغرى جميعا لايزيدون عن 5000 نسمة، ولكن أغلب هذا الماء يذهب في التبريد وغير ذلك مما يحتاج إليه في الصناعات الضخمة.

قلنا: وماذا يمكن أن تخبرنا عن الكهرباء في عدن الصغرى؟

فقال: إن لعدن الصغرى محطتها الكهربائية الخاصة وقوتها تبلغ 22 ألف و500 كيلو وات وهي قوة تكفي لتموين مدينة يبلغ عدد سكانها 100 ألف نسمة.

سألناه: طيب يا أستاذ حمزة لم تخبرنا عن أنواع الزيوت التي تنتجها هذه المصافي.

فقال: زيوت البواخر والبترول والجاز وسليط الديزل والغاز الذائب».

نساء في تاريخ عدن

في العدد 12 من مجلة «فتاة شمسان» الصادر يوم الخميس 1 ديسمبر 1960 الموافق 12 جماد ثاني 1380هـ السنة الأولى يقدم الأستاذ حمزة علي لقمان حكايات من تاريخ عدن وما لعبت النساء من أدوار، ويقدم لنا قصة الحرة بهجة عندما كان يحكم عدن أبناء العم علي بن أبي الغارات ابن المسعود ابن المكرم وسبأ بن أبي السعود بن زريع ابن العباس ابن المكرم.

«لقد كان علي بن أبي الغارات الحاكم على حصن الخضراء وباب البحر، بينما كان سبأ يحكم حصن التعكر وباب البر الذي يعرف اليوم باسم جبل حديد، وأراد كل واحد منهما أن ينفرد بالسلطة فاستعد كل واحد منهما بالرجال والمال والسلاح لخوض الحرب، أما الحرة بهجة أم علي بن أبي الغارات فتسكن في قصر يقع عند جبل الخضراء الذي عرف يوما باسم جبل البنديرة، وقد حثت ابنها على المقاومة، وكانت تدخر له الأموال والمجوهرات.

ودارت معركة عنيفة بين الفريقين كان موقعها بالقرب من لحج، نزلت الهزيمة على ابن أبى الغارات، وهرب مع عمه منيع إلى حصني منيف والجبلة في صهيب الواقعة على مسافة 12 ميلا من لحج، ومنذ ذلك اليوم تأسست دولة بني زريع، وتم دخول شيخ بلال بن جرير المحمدي قائد جيش سبأ إلى عدن وذهب إلى حصن الخضراء فوجد الحرة بهجة ثابتة العزم بالرغم من هزيمة ابنها.. واستولى الشيخ بلال على الحصن، وكان به الكثير من الأموال والذخائر وأمر بمصادرتها، ونقلت الحرة إلى عدن وعاشت فيها، وبنت مسجدا فخما كان يعرف في عدن باسم مسجد الحرة، على مقربة من جامع المنارة».

الجارية العبدلية

وهذه قصة أخرى يقدمها لنا الأستاذ حمزة علي لقمان من تاريخ عدن، حيث يذكر أن جارية كانت في قصر سلطان لحج وعدن محسن فضل بن محسن فضل، وقد ظل اسمها مجهولا، غير أن الأثر الذي تركته على الأحداث كان مهما كما يشير الكاتب.

«القصة تذكر أنه قبل دخول بريطانيا عدن بسنتين أي في 4 يناير عام 1837 جاء إلى عدن الكابتن هينس، وطلب من السلطان غرامة مالية قدرها 12 ألف ريال قيمة البضاعة التي نهبها رعاياه في سواحل عدن من السفينة داريا دولت. وبعد مفاوضات وافق السلطان على هذا الطلب، وفي 23 يناير عام 1838 تمكن هينس من الحصول على وثيقة عليها إمضاء السلطان، ذكر فيها استعداده لتسليم عدن للإنجليز في شهر مارس مقابل راتب سنوي قدره 8700 ريال. وكان مترجم الكابتن هينس عربيا اسمه السيد أحمد بن عيدان، أما الأمير أحمد ابن السلطان فقد رفض واعترض على التوقيع على الوثيقة وهدد بقطع رقاب الإنجليز إذا هم نزلوا على الشاطئ.. واجتمع مع والده وبعض رجالهما في إحدى غرف القصر».

ويذكر حمزة علي لقمان، أنه «بينما كان هينس في السفينة كوت بالقرب من ساحل حجيف رأى ترجمانه يشير عليه بالاقتراب من الشاطئ، فأسرع هينس بالنزول إلى البر، وقال له الترجمان إن جارية السلطان أخبرته بأنها كانت تستمع إلى مناقشة دارت بين السلطان وابنه ورجالهما، وكانت الخطة أن يسمحوا لهينس وترجمانه وضباطه بالقدوم إلى القصر وبعدها يقبضون عليهم ويقتلونهم ويستولون على الوثيقة، وبعد معرفة هينس بهذا الأمر ألغى اجتماعه بالسلطان ورجع إلى الهند ليعد العدة للدخول إلى عدن».

أما ما كان من أمر الجارية، فيقول الأستاذ حمزة علي لقمان: «الجارية لايعلم أحد ما كان مصيرها، أما لماذا كشفت سر سلطانها فنحن أمام أمرين: الأول: أنها ربما كانت جاسوسة تعمل لحساب هينس.الثاني: أنها ربما كانت على علاقة حب بأحمد بن عيدان، وحين علمت بالمؤامرة خشيت عليه فأبلغته تفاصيلها وأنقذته وأصحابه من القتل».

حيرة

قبل تفرغ الأستاذ حمزة علي لقمان لكتابة الدراسات التاريخية، أسهم إبداعا في بعض المجالات الأخرى مثل الترجمة الإدارية والمقالات الصحفية، وكان أول عمل يصدر له مطبوعا مسرحية (ليلة العيد) في أربعة فصول عن مطبعة السعادة في مصر دون تاريخ، وهي كما يبدو تعود إلى فترة الأربعينات من القرن الماضي، أما ثاني إصدار له فهو كتاب (من صميم الحياة) وقد صدر عن مطبعة (فتاة الجزيرة) في عدن، ومن المحتمل صدوره عام 1944، وهذه المادة تقدم لنا مرحلة مبكرة من كتابات حمزة علي لقمان في الجانب النفسي، حيث يقول: «اشتاق يوما إلى أن يتكلم فلم يجد من يتحدث إليه، ولم يجد أمامه إلا فضاء واسعا ليس له حد، فعزم على أن يحدثه فقال: ليس أحب إلي من العزلة في البيت أطالع الكتب والمجلات والجرائد التي لاتفتأ تتكدس أمامي فتكون أكواما من الورق منتشرة في كل زاوية من زوايا غرفتي وفي كل رف من رفوف الخزانات حتى خزانة الثياب!.

ومن طبعي أن لا أحاول تنظيم سريري بل ولا أعبأ به، لأن هذا التنظيم يكلفني عناءً كبيرا لا أطيقه، فتحت الفراش وتحت الوسائد تكمن الأوراق والكتب والمجلات والجرائد، فتكون هي الأخرى فراشا وثيرا أنساها أو على الأصح- أردت أن أماري ذاكرتي- أتناساها حتى لاتكلفني هذه الأكوام ما لا قبل لي به من العناء.

وأكوام الأوراق هذه تجعلني كخراش لا أدري ما أصيب، فكلها ممتع وكلها جدير بالقراءة والنظر، ولكن بأيها أبدأ وأيها أحق بالأسبقية من غيرها، وأيها قد قرأت؟ ذلك ما يحرجني حقا! وذلك ما يجعلني أضيف إلى الأكوام أكواما أخرى بحجة قراءتها، وما ذلك في الحقيقة إلا تخلص من التفتيش، وما يعقب التفتيش من التنظيم ووضع كل شيء في محلة، ولي ذاكرة عجيبة تضيف بنسيانها سببا إلى أسباب التخلص من ذلك العناء:

ذاكرتي!

هذه الذاكرة البليدة الواسعة الخروق كالغربال الكبير.

ذاكرة سرعان ما تتسلل الذكريات من بين فتحاتها الفاغرة، فلا يبقى من الذكريات إلا نزر يسير لا أتذكره إلا بعد أن أقضي وقتا ليس بالقصير في إجهاد الفكر وفي تقطيب الحاجبين.

مسكينة هذه الذاكرة الرقعاء التي تنسيني حتى رد السلام في اللحظة التي يسلم فيها علي!، وقد حدث أن أعارني صديق كتابا، وبما أنه يعرف الشيء الكثير عن ذاكرتي الخوانة فإنه ظل يذكرني بالكتاب كل ثلاثة أو أربعة أيام، ولكن أنى لي أن أتذكر الكتاب ومطالبة صاحبه به.

فإني ما إن أصل إلى البيت إلا ويكون كل ما يمت إلى الكتاب بصلة قد تبخر من ذاكرتي حتى المذكرة التي أكتبها عنه في مفكرتي لا أجد من يذكرني بإخراجها من جيبي!، وبعد مضي زمن على استعارة الكتاب قرر أهالي الذين ضجروا من إهمالي لغرفتي أن ينظفوها ويقضون على العناكب وخيوطها وغيرها من القاذورات المنتشرة في كل أنحاء الغرفة، وبينما هم يزحزحون خزانة الكتب الثقيلة بما فيها إذ سقط شيء على الأرض ظنوه لأول وهلة فأرا، ولكنهم بعد أن رجع إليهم رشدهم وجدوه كتابا قد كسته القاذورات بطبقات كثيفة من الأتربة بعضها فوق بعض، وعندما ولجت الغرفة في نفس اللحظة ودفعوا به إلي وجدته الكتاب المستعار من صديقي!

وعلمت منهم أنه كان مهروسا بين الجدار من جهة وبين ظهر الخزانة من الجهة الأخرى، ولما لم يجد من ينتشله من سجنه الغريب رنا بطرفه إلى السماء وظل يسبح لله آناء الليل وأطراف النهار ويدعوه إلى أن يفكه من أسره ويبعثه من جديد.

وفتح الله عليه بزحزحة الخزانة في ذلك اليوم فوقع على الأرض ولسان حاله: حمدا لله.. السقوط على البلاط خير لي من الهرس في ذلك السجن الضيق. خذوني إلى مالكي أشكو إليه حالي!!» فأردت أن أهدئ من ثورته بمسحه بكل عناية كما نربت على ظهر الطفل الباكي ليهدأ، وفعلا بعد قليل وقد وضحت معالمه فأصبح لماعا كأنما هو يبتسم لعودته إلى الحياة من جديد، وأخذته إلى صاحبة في الحال».

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى