ديوان علي أحمد باكثير الذي تأخر صدوره (76) عاما.. سحر عـدن وفخـر اليمن

> «الأيام» رياض عوض باشراحيل:

> الأديب والشاعر الحضرمي اليمني الكبير علي أحمد باكثير أحد رواد الشعر العربي الذين سطع نورهم في العصر الحديث، وأحد الذين ضخوا دماء التجديد العروضي في القصيدة العربية بتوسيع آفاقها وتوظيفها في فنون الأدب الأخرى كالمسرحية والرواية والقصة وغيرها, محققا تحولا كبيرا في لغة القصيدة وأساليبها التعبيرية والفنية، وفتح أمام الإبداع الأصيل فضاءات واسعة أسس بها مع السياب والملائكة وأضرابهما اتجاهات إبداعية جديدة برزت آثارها في الأجيال المعاصرة لهم واللاحقة, وعلي أحمد باكثير مدرسة أدبية متميزة بالالتزام الإسلامي في طرح قضاياه ومعالجتها, رفع في فنه منزلة الدين والقيم الإسلامية الأصيلة التي انطلق منها وسار على نهجها وأبلى في الدفاع عنها بلاءً حسنا, وهو ضمير الأمة الذي صرخ في وجه كل من تنكر لقيمها ومبادئها ومُثُلها وأحلامها، وهو إنسان وشاعر وعى الحياة بصدق فاستطاع أن يقرأ الواقع ويستشرف المستقبل, وقال الحقيقة، حقيقة الإنسان حاكما ومحكوما, عاشقا ومعشوقا.‏

صدر حديثا لأديب العربية وشاعرها علي أحمد باكثير ديوانه الثاني الذي توزعه دار حضرموت للدراسات والنشر بالمكلا مع دار كنوز المعرفة في جدة بعنوان (سحر عدن وفخر اليمن) في (175) صفحة وضم بين دفتيه (46) قصيدة ومقطوعة شعرية، غرد بها في خمائل عدن الفيحاء كعصفور هارب من هجير حضرموت بعد أن هجرته الحياة فيها بفقده زوجته ومحبوبته ونور قلبه التي رحلت مبكرة كالزهرة النضرة التي نشرت عبيرها في وجدان باكثير لأربع سنوات فقط ثم رحلت إلى جوار ربها تاركة الشاعر الكبير حزينا ومتألما، يبكيها ويسكب عليها الدموع الحارة طيلة حياته, ومن خلال قصائد هذه المرحلة نستشرف علاقته برواد النهضة الأدبية في عدن، وفي طليعتهم محمد علي لقمان وأحمد محمد الأصنج وعمر محمد محيرز ومحمد عبده غانم وغيرهم من رواد تلك المرحلة ممن عاش معهم ردحا من الزمن في صداقة عامرة وود مقيم ومحبة غسلت عنه شيئا من أحزانه آنذاك، ولكنها لم تشفي آلامه ولوعته، ولم تمنحه السلوى في رزئه وجرحه العميق, ففاح عطر الصداقة مع هؤلاء الرواد في قصائد هذا الديوان الذي أصدره وحققه وكتب مقدمته د.محمد أبوبكر حميد، الباحث الذي نذر جهده وطاقته الأدبية لخدمة تراث علي أحمد باكثير- عليه رحمة الله- ود.حميد أديب عصامي وباحث جاد عرفه الناس عن طريق مؤلفاته العميقة محققا في قضايا التاريخ وتاريخ الأدب, وعرفوه كاتبا أديبا تعمق في دراسة الأدب العربي بعد أن تشبع بدراسة الأدب الغربي فكانت كتاباته الأدبية أبعد نظرا وأوسع أفقا, وعرفوه ناقدا أدبيا مستنيرا بالرؤية الإسلامية الصائبة للأدب، ربما أذكى هذه الرؤية تأثر التلميذ حميد بأستاذه باكثير، وبعد أن تسلح د.حميد بهذه العناصر الرئيسية الثلاثة، وهي الدراسة الأدبية والحس التاريخي والبحث النقدي، ذهب يجمع ويدون ويستقصي أخبار وأشعار علي أحمد باكثير رائد الشعر الحر والتوجه الإسلامي في الأدب العربي فأصدر ديوانه الأول (أزهار الربى في أشعار الصبا) عام 1987، وضم هذا الديوان أشعار باكثير في المرحلة الحضرمية, وها هو اليوم يصدر ديوانه الثاني الذي يمثل عواطف باكثير وآرائه وأفكاره في المرحلة العدنية وذكر د.حميد في مقدمة هذا الديوان أن ديوان باكثير الثالث الذي يمثل مرحلة الحجاز يقبع الآن تحت عجلات المطابع، وأنه يعد لطباعة ديوانه الرابع والأخير الذي يمثل المرحلة المصرية وهي المرحلة الأطول إذ إن مادة هذا الديوان الشعرية من الغزارة والكثافة تفوق مجموع دواوينه الثلاثة الأولى.

وجاء في المقدمة قول د.حميد عن باكثير إنه كان محظوظا حين كانت عدن أول محطة نزل بها في خط سيره قادما من حضرموت، حيث غادر سيئون متوقفا ببعض الأرياف والمدن متوجها إلى المكلا التي غادرها حزينا ومريضا ومهموما بعد وفاة زوجته الشابة التي أحبها حبا عظيما، وفجع بموتها الذي أورثه حزنا مقيما رافقه طوال حياته، فوصل عدن بعد نحو شهر على وفاة زوجته, وفي عدن احتفى أدباؤها وصدحت نواديها الثقافية بشعره ومحاضراته وربطته برائد حركتها الأدبية والفكرية الأستاذ محمد علي لقمان (1898- 1966) رابطة صداقة نادرة المثال, ومحبة وثيقة العرى لاتخطر ببال، وفي بحر هذه الصداقة النادرة والمحبة العظيمة اغتسل باكثير من دموعه وتخفف قليلا من أحزانه. وفي ظلال أبوة لقمان وأستاذيته وإخلاصه وصدقه انتعشت آماله وطموحاته، وهو ما عبر عنه واعترف له به في نثره وشعره, وعلى ضوء ذلك فلا عجب أن يكون إهداء الشاعر لهذا الديوان مناصفة بين أعز وأحب مخلوقين عنده: زوجته الحضرمية الراحلة نور سعيد باسلامة وصديقه العدني الحميم محمد علي لقمان الذي قصده بعبارة (فخر اليمن) وهو اللقب الذي أطلقه عليه أمير البيان شكيب أرسلان، لأنه رأى فيه صورة رائعة لليمن فكرا وثقافة وجهادا. وعندما هاجت به ذكرى صديقه لقمان عبّر باكثير في صورة شعرية رائعة عن حبه وشوقه إليه قائلا:

إني لأذكره والكأس عند فمي

فأطرح الكأس من وجد وتحنان

كــأنه ملــك مــولاه أرسـلـــه

لينفـخ الروح في أبناء قحطـان

لقد أحب باكثير عدن الإنسان والمكان، ووجد فيها مستراحا خفف عنه بعض حزنه وهمه حتى أحس فيها أن الزمان بدأ يحنو عليه لإحاطة رجالها الأوفياء به وإخلاصهم له، فانعكس ذلك في شعره وفي عناوين قصائده التي أورد فيها لفظة عدن معشوقته الأثيرة مثل: عدن ثغر جميل, عفاف الريح في عدن, في بستان عدن, على شاطئ عدن, نهضة عدن, مصور عدن, وغيرها. أما انعكاس صورة عدن الساحرة في مرآة شعره فقد قال فيها:

أستودع الله عدن مسقط رأسي والسكن

وكل من فيهـا ثوى وكل من فيهـا سكــن

من فوق شمسان إلى مرسى البواخر والسفن

ومن قصائد باكثير في هذا الديوان غير العدنيات- أي التي خص بها عدن- وغير اللقمانيات التي نظمها في صديقه محمد علي لقمان، وغير الوجدانيات في زوجته الراحلة, قصيدة في رثاء شاعر النيل حافظ إبراهيم، وقد نشرتها جريدة الجهاد المصرية بعنوان (شاعر حضرمي يبكي شاعر النيل), وأخرى في رثاء أحمد شوقي بعنوان (دمعة حضرموت على أمير الشعراء)، وثلاث قصائد في نصرة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود, ونشيد اليمن الخضراء, وابتسمي للحياة صنعاء, ونشيد دولة الجنوب, وتحية للجنوب المستقل, كما جاءت في الديوان قصيدته التي احتضنت بيته الشهير الذي سار مسير الأمثال، وأكد فيه باكثير عبقرية الحضارمة وعبقريته وأصالته وصدقه, واعتزازه بوطنه و فخره بأهله وأرضه وهويته حين قال:

ولو ثقفت يوما حضرميـا

لجـاءك آيـة في النابغينـا

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى