الزمان والمكان في شعر المحضار

> «الأيام» حسن سالم الغرابي:

> الشاعر الكبير المبدع الذائع الصيت حسين أبوبكر المحضار عليه رحمة الله تعالى حينما تسمع كلماته التي يعبر بها عن معاناة حقيقية يعيشها متأثرا بالوسط الاجتماعي والطبيعة بشكل عام، ويصور تلك الحياة التي هي ماثلة أمام عينيه تصويرا حيا صادقا وحقيقيا، وبث روحه المرحة في تلك الأشياء التي يعبر عنها، فهو حين يخاطب تلك الأمكنة والمواقع والزمان يخاطبها وكأنها بالنسبة له أسرة يبث فيها روح الإنسان ويجعلها تتحرك فتخاطب، يقول المحضار:

أمي الشحر والوالد جبل ضبضب

وابني الحيد السود وابنتي ضبة

فهذه المواقع التي ذكرها المحضار بث فيها روح الإنسان من حركة ونشاط ودبيب حياة، ونقلها من صورة الجماد إلى صورة ذات أبعاد في النفس لها تأثيرها على الخواطر والوجدان الإنساني، هذه المخاطبة الأسرية أعلى ما ينطق به الإنسان (أمي الشحر) (والولد جبل ضبضب) أليس الأبوان هما أساس الأسرة والعمود الفقري الذي تعتمد عليه، إنها صورة ذات مدلول بعيد في النفس، لقد جعل تلك الأمكنة روح الإنسان أسمى ما في الوجود. محضارنا أعطى المكان صورة عميقة وجعله يتنفس ويشتاق ويفرح ويحزن ويتألم وينتقل من مكان لآخر، وهذه الصفات موجودة في الإنسان.

خبرني بانفراد * كيف قوينا الإرادة

واحتفظنا بالوداد * والوفي يحفظ ودادي

والوفي ما يستعاد * أنى يرده أي راد

والمحب يتقبل * الآلام أحيان

نلاحظه حين انفرد بـ (سعاد) يخاطبها بحرارة وشوق ولهفة، ويمدها من روحه العطشانة التي أرقها الزمن والفراق، فأجمل كلمة (خبريني بانفراد)، وكأنه يخاطب امرأة عزيزة عليه، محبوبته التي بعد عنها، وحين عاد إليها بشوق وحنين خاطبها بأصدق اسم (سعاد)، إنه متلهف لرؤيتها ومعرفة أخبارها في غيابه، أليس مثل هذا السؤال والاستفسار يخاطب به الإنسان أخاه الإنسان؟، فالمحضار يرى سعاد (الشحر) تلك المحبوبة الغالية التي يفرحه فرحها ويحزنه حزنها.. فهي روح إنسان تتأثر وتؤثر، لقد أعطى المحضار المكان نكهة خاصة وروحا حركية نشطة تبث الحيوية والحياة في أماكن ومواقع جامدة لا حركة فيها من خلال تلك الإشعاعات التي أرسلها عليها من روحه، ومخاطبتها له بأنها تناجيه، ويظل المحضار وفيا مخلصا في حبه لتلك الأمكنة التي ارتبط بها وأصبحت تشكل جزءا من حياته، إن لم نقل حياته كلها:

حتى وإن جار الزمن * أو جف وادينا وأصبح شعبنا مزمون

أو فرقت نحنا الفتن * مازال قلبي متولع وبك مشطون

يؤكد أنه مهما جار الزمن وطال غدره واشتدت قسوته عليه سيظل يحتفظ ويرعى تلك الأمكنة التي له فيها ذكريات رسمتها الأيام على وجنتيها وشكلها الزمن وأصبحت بالنسبة للمحضار آثارا يحافظ عليها ويعود لها من حين لآخر. والزمن في شعر المحضار يتجسد من خلال ذلك اللقاء الذي طالما كان حلما يراوده ويدغدغ عواطفه ويثلج صدره، وربما كان الزمن ساعات أو أياما أو ليالي أو ربما سنوات، فهو لايقدر بثمن حتى لو قرنت باللآلئ:

ما كل الليالي * مثل ليلة وصالي * حبوب اللآلي * ما رضى بهن فيها ثمن * يالقرن ياليتك تقع لي وطن

ولقسوة الزمن وأفعاله عليه كانت ضرباته قاسية يكابدها ويتحمل كل ذلك من أجل حبيبته، إنه يتألم ألما عميقا، فالزمن بالنسبة للمحضار كان له عمق وغور في الداخل في النفس.. إنه يكابد تباريح النوى والصد، ويجد ذلك في روح الزمن الصافية، ولأن غياب حبيبته وفقدها يزداد بمرور حركات الزمن المتلاحقة التي قلما ظفر فيها الشاعر باللقاء:

قسا علي دهري * لقى بئس الفعال

يهوين كم قاسيت من دهري وفعله

غصبا سقانا المر من بعد الزلال

المحضار كان يعاني معاناة عميقة وحقيقية، لم يكن أثرها يظهر واضحا فحسب، بل يسير إلى الداخل إلى العمق، حيث يتعمق المحضار في تصويرها فلا توحي لك الوهلة الأولى بها، فهي بعيدة الأثر مؤثرة الوقع، ما أجمل تلك السويعات التي يطرب لها المحضار ويسعد بذلك الزمن الذي سمح له باللقاء، وكأن الزمن في تلك اللحظة كان غافلا غير منتبه للمحضار، فاختلس لحظات لقائه، التي تمر سريعا:

أسعد زمان الحب من وعدك إلى ألقاك * وباقي الأيام تمضي في جحيم جفاك

يظهر أن الزمن أو تلك اللحظات التي تقع بين الوعد واللقاء هي من أجمل لحظات المحضار حينما يعبر عنها بتعبير جميل (أسعد زمان الحب)، هذه الجملة دلت على مدى الصدق الذي يوحي به شعر المحضار، فالزمن لم يكن يشبه زمن الوعد.

المحضار أعطى مدلولا خاصا وطعما ومذاقا ونكهة رومانسية في عبير ذلك الزمن الذي تفوح منه رائحته العاطرة، والمحضار يستأذن الزمن للخلو والانفراد بحبيبته، فزمن اللقاء عند المحضار زمن الخير والحب والعطاء وزمن الجفاء والبعد والهجران.

إن للزمان والمكان أبعاد عميقة عمق الأثر، لايصورها المحضار في صورة اللفظ الجاف، ولكنه يرسمها في صورة الفنان المبدع، ولايتراءى لك جمال ورونق تلك الصورة إلا من خلال التدقيق فيها، فالزمان والمكان خليلان، فهو وظف الزمن في خدمة المكان والعكس، وجعلهما يتجسدان في صورة واحدة.

المحضار كان بعيد الرؤية عميق النظرة والتدقيق في تصويره واستعماله لأدواته استعمال الصانع الخبير بصنعته، شفافية العبارة ودقة المعنى وإرهاف الحس، كأنه ينبوع يتدفق سرورا وحياة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى