الديس الشرقية تستذكر تراثها

> «الأيام» محمد سالم قطن:

> الديس الشرقية واحدة من أشهر البلدات المركبة في ساحل حضرموت، فهي مدينة ومنطقة متعددة الأرباض والضواحي، تمتعت منذ تكوينها الأول بمزيج من الحياة الحضرية والريفية معا، ولأنها نشأت وفق هذا التكوين، قدّر لها أن تلعب على مدار تاريخها الطويل دور الخاصرة في الجسم الحضرمي الكبير، بساحله وداخله، معرابه ومشقاصه، حواضره وبواديه.

لقد كان هذا صحيحا وفق مقاييس الجغرافيا السياسية للتاريخ الحضرمي في العصر الوسيط، فقد كانت هذه المنطقة نقطة احتكاك ساخنة تقاطع فيها الصراع بين نفوذ الدويلات الحضرمية التي تعاقبت خلال ذلك العصر على حكم حضرموت وبين سطوة القبائل البدوية (خاصة منها قبائل الحموم شديدة المراس).

كما كان هذا الدور- أي دور الخاصرة في الجسم الحضرمي الكبير- يجد مصداقيته الأخرى ثقافيا فيما تمثله الديس الشرقية إبداعيا، بكونها نقطة تلاق بين مظهري الفولكلور الحضرمي البدوي والحضري معا.

وقبل أيام أصدرت جمعية التراث والآثار بالديس الشرقية العدد الثاني من مجلتها الفصلية «خُلفة». و«خُلفة»، لمن لايعرفها، هي ميناء قديم و معلم أثري ومنتجع سياحي من معالم الديس الشرقية وهو شقيق للمنتجع الديسي الآخر الأكثر شهرة (شرمة) الذي أصبح اليوم محمية طبيعية حفاظا على سلاحفه.

هذا الإصدار، بمواضيعه الغنية وإخراجه الجيد عكس تعلق أبناء الديس الشرقية بتراث مدينتهم واحتفاظهم بمودة الذكريات الجميلة للراحلين من مبدعيهم وأهل الفضل في واديهم.

غلاف المجلة ازدان بصورة جميلة لحصن الدولة الذي يتوسط المدينة بعد أن قامت الجمعية بترميمه وإعادة تأهيله، وعلى امتداد صفحات هذا الإصدار يبحر القارئ وسط بانوراما رائعة من المقالات المنصفة لتراث وذكرى جيل الرواد الأوائل من أبناء الديس الشرقية في دنيا الإبداع ورحلة العطاء، المعلم الشاعر عوض أحمد حميدان، الفنان سالم سعيد جبران، الشاعر بن سبيتي، الشاعر سالم مفلح، الأديب سعيد عبدالله بحاح مؤسس نادي الإخاء والتعاون في الأربعينات من القرن الماضي، الناخوذة عبدالرحيم عمر حوري (رحمهم الله جميعا). كتابات جميلة عن محطات حياة هذا الشاعر وذاك الأديب، كل التاريخ الأدبي والفني للديس الشرقية لخصته مقالة ضافية لأحمد محفوظ الحداد.

مقالان جميلان كتبهما الشاب متعدد المواهب أنور سعيد الحوثري بمداد من دموع اللوعة والفراق عن المعلم حميدان ثم عن مفلح أبو راشد. عبد الباسط الغرابي يبسط الألوان السبعة للدان الحضرمي، وكيف ساهم جيل الرواد من مبدعي وادي عمر (البديل الرومانسي لاسم الديس الشرقية) في إثرائها وتنويع الكثافة اللونية في كل منها. عرض لمحمد الحداد عن دراسة كتبها الأديب أحمد سعيد هبير عن (المعلم حميدان حياته وشعره).

خاطرة عن حوار أدبي قديم مع الراحل حميدان على شاطئ (شرمة) باح بها أحمد فرج مفلح في تلقائية ذكية بعد رحلة العشاء الأخير.

دراسة تاريخية مكثفة عن معيان (الصيق) لعبد العزيز قرنح، و(الصيق) بمائه الفاتر العذب هو شريان الحياة أو نهر الخلود كما أسماه الباحث قرنح، للديس الشرقية ومصدر اخضرارها.

التداعيات الديسية للدكتور سعيد الجريري عادت به إلى سنوات الطفولة والصبا التي عاشها في الديس بين نخيلها وما تنتجه من تمور تفيض عن الحاجة.

كل ذاك الفيض توارى اليوم، حتى نخلة جدته (رحمها الله) التي كانت تمرتها كثلاث تمرات تهاوى جذعها ذات يوم.. فكما تقول صياغته الأدبية السلسة لتلك التداعيات (لقد كان للأرض عبق، يوم كانت للديس غابات من نخيل، وأشجار مثمرة، وقلوب خضراء مورقة).

ناصرالغرابي لم يبخل علينا ونحن نتصفح هذا الإصدارببضع فناجين من القهوة البدوية المرة، وكان ذلك من خلال استعراضه لطقوس شرب القهوة قديما عند أهالي الديس حضرها وبدوها. الباحث طاهر المشطي قدم دراسة علمية عن التوزيع الجغرافي للمواقع التاريخية والأثرية والسياحية بمديرية الديس الشرقية.

استعان فيها ببرنامج (قوقل إيرث) الشهير في تحديد تلك المواقع ورسم الخرائط. وهذا جهد علمي يشكر عليه كثيرا، فقد كانت الخرائط المرفقه لدراسـته غنية جدا بالمعلومات.

سكرتير تحرير «خُلفة» صالح بحرق تناول عرضا نقدياً لديوان تجليات الألم للشاعرة سوسن العريقي، كما عرض محمد صالح باشعيب ملامح متعددة، سردا وشعرا، من علاقة الراحل حسين أبوبكر المحضار بوادي عمر (الديس الشرقية)، كذلك استعرض الكاتب عمر عوض خريص وصية الراوية الشاعر عوض سالم عبدن، وقدم عبيد سالم بابريدة بحثا عن ضمعج، كاسم تاريخي لشبوة.

حوت المجلة أيضا عددا من المساهمات الأدبية الأخرى، قصة قصيرة لمحمد سالم المرفدي، بعنوان ليلة شبه ممطرة، وأخرى لصبيح برك الغرابي تحت عنوان الجراد، وقصائد شعرية ومتفرقات ساهم بها طالب المقدي ومحمد محفوظ سكران الكالف وأحمد بن سويلمين وسالم هبير ومحمد المحفلي وصالح السباعي.

من المكلا، بعث الزميل سالم العبد همسة محبة لجهود العاملين في جمعية التراث والآثار في الديس الشرقية.

أما على الغلاف الأخير للمجلة فقد كتب مشرف المجلة مؤسس الجمعية ورئيسها الزميل سعيد عبد الرب الحوثري ما يلي: «وكما قلنا سابقا إن أي عمل هادف لايخلو من القصور والخطأ، خاصة إن كان طوعيا، وفي قلة الإمكانيات وعدم الدعم المستحق من الجهات الرسمية، فنحن ندخل عامنا الثالث ولم تقدم لنا الشؤون والتأمينات الدعم المستحق، ولم تقدم لنا وزارة الثقافة دعما برغم مناشداتنا، ولم تقدم لنا السلطة المحلية في المحافظة ولا في المديرية أي دعم يذكر، ومع هذا فنحن سائرون بعون الله ومساندة بعض الأخيار في المجتمع، وسوف نشق الصخور بالأظافر ونخطئ ونصيب، ولايصح إلا الصحيح».

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى