(يا طالع الشجرة) والفن الحديث

> «الأيام» أديب قاسم:

> هذه الدراسة (سنوات ناهزت الأربعين عاما، مرت على نشر هذه الدراسة النقدية التي أوفى بها قلم الأديب والناقد الأستاذ (أديب قاسم)، حيث نشرتها جريدة «أخبار المصافي» في9 ديسمبر 1968.. عقب صدور مسرحية الكاتب المسرحي العربي توفيق الحكيم (يا طالع الشجرة).

ونظرا للقيمة الفنية التي تتمتع بها رأت صفحة (الأدب الجديد) إعادة نشرها ليستمتع بها القارئ الكريم، ويفاد من خلال تتبعه لأسلوبها النقدي، حيث لاتزال المسرحية تحظى باهتمام النقاد، وهم يقفون منها في حيرة، بما تخلفه من روائع الأعمال الأدبية في كل عصر).. المحرر

تعتبر مسرحية (يا طالع الشجرة) لتوفيق الحكيم من أعنف المسرحيات التي وقف أمامها النقد طويلا، وكتب عنها النقاد كلاما كثيرا.. قالوا فيه: «إن مسرحية (يا طالع الشجرة) عمل فني بالغ العمق والخصوبة». ونحن نود مشاركتهم الرأي في إعطاء وطرح التفسيرات لها، فنقول:

(يا طالع الشجرة) المسرحية.. لقد أراد الحكيم منها أن تثير فينا بعض الأحاسيس كالتي أثارتها فيه (يا طالع الشجرة - الأغنية للأطفال).. وإذ أراد أن يجعل من العمل المسرحي عملا خصبا، فإن توفيق الحكيم هنا هو فلاح ذكي، إذ كان قد أورث لنا أرضا خصبة نستخرج من باطنها الكنوز.. ولما كنا نحصل منها في كل مرة على تفسيرات جديدة، هي محصلة ثقافة الفنان الذي يأتي ليفسر، إذا به يغرف لنا من مكنونات نفسه الداخلية.. فقد كان هدف الحكيم هو الوصول إلى إيقاعات ومؤثرات جديدة في الفن تستطيع أن تخاطب نفس الإنسان من خلال الرموز والأشكال.

وليس هو فلاح ساذج يبوح لنا بالذي أراد أن يقول، كالذي تعلمناه في كتاب النحو الإنجليزي، حين قام شخص ما بذبح الدجاجة ليستخرج جميع البيض الذهبي!.. بل لقد أراد أن يستدرجنا إلى هذا الفن الجديد من أوسع أبوابه، وفي ذلك يقول توفيق الحكيم:

«على الرغم من منابع الإلهام المختلفة في الفن الحديث كله، فإن بؤرة الحساسية الفنية فيه واحدة، هي حب البحث والكشف عن قيم فنية جديدة.. إن عصر البحث والكشف في العلم عن أسرار علمية جديدة قد جعل الفن أيضا يشعر بالغربة عن هذا العصر العجيب إذا لم ينهض هو أيضا ليبحث ويكشف.. وآمل أن يضع القارئ الكريم هذه العبارة نصب عينيه، ومن دخل المعمل للبحث أو الكشف فلا أحد يدري متى يخرج.. وأغلب الظن أنه لن يخرج أبدا لأنه لا نهاية للبحث والكشف».

وما كنت لأظن أن توفيق الحكيم يستوحي شيئا من (الأغنية) غير الشكل، إذا فالمسرحية تتسم بالشكل، ونستعير التعبير الخاص به، وهو التعبير الذي يعبر به عن انطباعه الشخصي تجاه الفن الحديث.. فعندما يقول الحكيم إن التصوير مجرد بقع لونية والنحت بقع كتلية والموسيقى بقع صوتية والشعر بقع لفظية، نقول نحن (بالنسبة لمسرحية (يا طالع الشجرة) تحديدا): «إن المسرحية هي أيضا بقع شكلية، وهي أحد الفنون التشكيلية الحديثة. وبما أن الفن التشكيلي قائم على أعمال الجبس والصلصال والصورة التقريرية والصورة المتداخلة الألوان والخطوط، أي (الرسمة التجريدية)، فهو هنا بناء مسرحي قائم على الكلمات.. وهنا نعود إلى الحكيم مؤلف المسرحية نفسه حين قال إن الشعر هو بقع لفظية.. فهي من مدرسة (البقع)، والبقع اللفظية!، ونتناولها باختصار فنقول:

(ياطالع الشجرة) مسرحية من الفن الحديث.. أما أن يخاطب هذا الفن العين والأذن مباشرة دون أن يمر بالعقل فهذا غير معقول، لأن العقل سرعان ما يبدأ يتساءل: هل لهذا الشيء معنى؟!.. ما هو المعنى الذي يمكن أن يكون له؟!.

وهو التساؤل نفسه الذي كان قد تساءله الحكيم أمام أغنية الأطفال التي رأى أنها هي والفن الشعبي من الفن الحديث. وينشأ العقل يخلع على (الشيء) معاني من عنده.

وتوفيق الحكيم وهو يضرب لنا مثلا بـ(بيكاسو) دلالة على الفن الحديث، فإنه يقول: عندما يصور تشكيلا فنيا يبدو لنا بلا معنى، وهو في الحق لايريد أن يحمله معنى، حتى إن وضع تحت الصورة عنوانا.. لأن المعنى الذي يريده لايقال وإنما يعمل.. لايسمى باسم، وإنما يكتشف بالخلق جديدا مجهولا في عالم المعروفات، وإن عملية الكشف والخلق وحدها هي المعنى.. وقد حدث هذا للوحة فان جوخ المسماة (الحذاء) عندما فسرها أحد النقاد قائلا: إننا هنا بإزاء حذاء ضخم لايحيط به شيء، ولايبدو خلفه أي طريق أو أية قطعة من الأرض.. ولكننا مع ذلك لو أمعنا النظر إلى الجزء الداخلي من هذا الحذاء لاستطعنا أن نلمح آثار الإعياء مرسومة عليه، ولو أننا نظرنا إلى ثقل الحذاء وصلابته، لأمكننا أن ندرك أنه حذاء فلاح يشق طريقه كل يوم عبر الحقول بخطى نشيطة أكيدة.. أما نعل الحذاء فإنه يحمل آثار التربة الدسمة الرطبة، وكأنما هو يشير إلى ذلك الطريق الموحش الذي يضرب فيه الفلاح مساء كل يوم عند عودته إلى بيته.

ثم هو يعلن- أي الناقد- أنه لا ريب من أن المصور الذي رسم لنا هذا الحذاء لم يكن يريد من ورائه أن يضع بين أيدينا مجرد صورة لموضوع نفعي يستخدمه الفلاح في عمله، بل هو قد أراد أن يعبر من خلال هذه الصورة عن نداء الأرض الصامت وقلق الفلاح في بحثه عن الطعام وسروره بالبقاء والانتصار على الحاجة وقشعريرته إزاء الموت الذي يتهدد كل حي.

وهكذا يتضح لنا صدق الحكيم حين قال إن عملية الكشف والخلق وحدها هي المعنى.. وهكذا فإن جميع التفاسير قد لاتعبر بالضرورة عن رأي الكاتب، إلا أنها قد تحمل المعنى الذي قصد إليه، وقد يكون هناك أكثر من معنى واحد قصد أو لم يقصد إليه الكاتب، وهو ما جعل النقاد يطلقون عليه صفة (خصوبة النص)، وإذا كان لنا أن نسأل المؤلف توفيق الحكيم ماذا يعني بمسرحيته، فلنا أيضا أن نسأل (بيكاسو) أو (فان جوخ) ماذا يعنيان برسوماتهما التجريدية؟.

إني أخال هنا أن الحكيم قد أمسك بالخيط من أعلى المسرح، وجعل يحرك العرائس كيفما عني لعقله الباطن، مستخدما لغة داخلية تستطيع أن تساير الصور التي يرسمها اللاشعور، ثم هو يسأل المشاهدين أن يفسروا ما رأوه حسب استعداداتهم (أو استجابتهم) الذهنية والعاطفية حتى يمكنه من اختيار الصفوة التي تمكنه من إقامة مسرح طليعي صغير ينتقل فيه من دور المتفرج عندما كان في باريس، يشاهد بيراندللو وهو يمثل على مسرح طليعي إلى دور بيراندللو الكاتب، ومعنى هذا أن نضعها (أي مسرحية ياطالع الشجرة) في إطار المسرح التجريبي الحديث.

ولقد وضعنا توفيق الحكيم في نفس الموضوع الذي وضع نفسه فيه أمام أغنية (ياطالع الشجرة)، ولكن وضعنا هذه المرة أمام المسرحية.

إننا الآن أمام حلم، وتوفيق الحكيم يسألنا هل لهذا الحلم معنى؟. ما هو المعنى الذي يمكن أن يكون له؟!. وقد ازداد عدد المفسدين لهذا الحلم بمرور الزمن!.. وكان بسؤاله الذكي هذا قد أثار عدة قضايا مهمة، لم يكن من السهل طرحها، لأنه لم يكن يتوفر لدينا هذا السؤال من قبل.. وهي قضايا كان قد أوضحها النقاد فيما بعد، وهم يقومون بعملية التفسير.

ولانعدم التفسير للمسرحية إذ إننا نرى أن من أقوى الغرائز في الإنسان غريزة الأمومة التي للمرأة.. وتوفيق الحكيم عندما صور لنا هذه الغريزة فقد صور لنا المرأة وعقلها كله في نبتها.. وصور لنا الرجل وعقلة كله في شجرته.. ليس هذه فقط بل وفي السحلية، فقد كان يبدي اهتماما قليلا بزوجته والسحلية، هنا تمثل الزوجة، وعندما تقول الخادمة: ها هي ستى بهانة في ثوبها الأخضر الذي لاتغيره. نجد الزوج يقول عن السحلية: جسمها الصغير يكسوه دائما هذا الثوب الأخضر.. صيفا وشتاء. وبينما الزوج كان يتحدث عن الشجرة، إذا به.. نعم إذا به فجأة ينتقل إلى السحلية، بينما استمرت الزوجة تتحدث عن السقط، وهذا دليل كاف على أن الزوج فقط استمر يتلقى الإشارات من عقلها الباطن، ويعمل منها سمادا لشعوره.. شعوره هو، شعوره الباطني، فيعمل على تقويته، ويعمل هو على نمو الشجرة.. «وهي التي تهتم اهتماما بالغا بالنمو العظيم»، يقول الحكيم على لسان الزوج. فإن تشابه المركبات، وهو ما يمكن تسميته (بمركب النمو) كان السبب في تفاهمهما على هذا النحو العجيب.. أما في الواقع فكان يختلفان. وإذ تتغير لهجة الحديث بعد عودته من السجن فقد لمس الزوج هناك شيئا من الواقع، والزوجة تقول له: منذ عودتك من الحبس وأنا لا أفهم ما تقول.

وعندما يتحدث الزوج عن الدفن، فهو يعني أنه قد دفن جميع رغباتها تحت اهتماماته بشجرته.. ويسأله المحقق: ألم تقل الآن أنك دفنتها تحت هذه الشجرة بعد أن قتلتها؟. فيقول الزوج: لقد تحدثت عن الدفن.. ولكن لم أتحدث عن القتل.

المحقق: تقصد أنك دفنتها ولكنك لم تقتلها!.

الزوج: لم أقتلها!.

المحقق: ولكنك دفنتها!!.

الزوج: هذه مسألة أخرى بيني وبينها، ولكنني لم أقتلها!.

المحقق: ومن الذي قتلها؟.

الزوج: أهي قُتلت؟!.

المحقق: أنت أدرى، مادامت قد دُفنت!.

الزوج: أهي حقا دُفنت؟!.

والزوج يقول له في سؤال متأخر: ومهمتك أن تلقي أسئلة محدودة المعنى، وتريد أن تتلقى عنها أجوبة محددة المعنى. والزوجة هي أيضا تقول للمحقق: إنني أفهم دائما من أقواله شيئا آخر.

إن توفيق الحكيم المؤلف المسرحي والفنان المعاصر، وهو يعيش مرحلة تجدد الحضارة، لابد أن يتأثر بموضوعات عصرية تتلاءم وطبيعة مسرحة الذهني، لاسيما أن المسرح هو أشد التصاقا بالحياة من الفنون الأخرى.

وهو من خلال المشهد الدرامي الذي مر بنا يعبر عن تجربة الفنان المعاصر في بحثه اللاهث وراء التعبير اللفظي لحالات العقل والشعور.. وهي قضية كان قد سبق إليها الكاتب المسرحي يوجين أونيل حين قال: «ما أشد حاجتي إلى لغة أكتب بها الدراما.. ما أشد حاجتي إلى حديث يتميز بأنه درامي لا مجرد حوار.. لقد جن جنوني من طول ما استخدمت لغة الكلام.. لقد ضقت ذرعا بتلك القضية المفتعلة.. قضية اللهجة.. ولكن أين أجد تلك اللغة التي أبحث عنها؟!». ولايريد اللجوء إلى وسائل التعبير العادية، وهي الألفاظ التي تتصل بالطريقة التي أصبح لايميل إلى التعبير بها.. وهو يريد التحكم بالألفاظ المتصلة بشيء لم يعد يريد التحدث عنه، إنه لايعني ما يقول.

وكذا هي حال الشعر الحديث، فالشاعر لايعني ما يقول.. وبالتالي فهو أشبه بصور الأحلام.. وقد تنبه بعضهم إلى هذا فقال (هربرت ريد): «إن الأديب يعبر عن معناه (بعبارات لغته الداخلية)، ولكن الفرق شاسع بين تعبير تلك اللغة الداخلية وتعبير اللغة الخارجية المفهومة التي نستخدمها في حياتنا المعتادة، فإذا شاء (الأديب) أن يعبر عن معناه بلغته الداخلية تعبيرا صادقا فإنه مضطر إلى مط معاني الألفاظ واستخدامها لغير ما اعتادت أن تعبر عنه.. وهذا ما يجعل الأديب خلاقا.. فعباراته قد لاتؤدي معنى، ولكنها تحدث أثرها العاطفي». وهذا ما كان ينطبق على المسرحية.

أما حكاية الدرويش فقد فسرها الزميل (عمر جبلي) (*) وغيره من المفسرين تفسيرا لا اختلاف فيه، وكذلك الشجرة فقد فسرها البعض على أنها (الازدهار) وفسرها غيرهم على أنها (الطموح).. وخلاصة القول أن نقول إن ما قيل بالأمس عن (أوديب) سوف يقال اليوم عن (ياطالع الشجرة).

لقد قيل عن أوديب: «إن المسرحية تحتوي على مادة خصبة، ولأنها خصبة يبدو أنها تقول الكثير وإن كانت تقول هذا الكثير في سرية وخفاء، لدرجة أن العقل لايكون له قبل بالراحة والاطمئنان إلى صيغة بعينها، وأنه يجب أن يضيف أو أن يفسر أو أن يبسط، أي أن يصوغ ما يقوله في كلمات يقبلها العقل..».

وتوفيق الحكيم في مقدمة المسرحية يعبر عن ذلك بقوله، ولأنها مستوحاة من الفن الشعبي: وفننا الشعبي يقول أشياء كثيرة دون أن يبدو أنه يقول شيئا.

وباختصار فإن (يا طالع الشجرة) هي مسرحية تجريدية.

هامش

(*) هذا المقال جاء تعقيبا على موضوع الزميل والأستاذ الفاضل الأديب (عمر جبل) في عرضه للمسرحية، الذي نشره في العدد (1) أكتوبر 1968 من جريدة «أخبار المصافي»، فكان له الفضل في تحريك هذه الخواطر والأحاسيس والأفكار، بما أحدثه في نفسي من استثارة عاطفية تجاه المسرحية.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى