أنموذج حي لحضارة العمارة الطينية في محافظة شبوة

> «الأيام» د. صلاح سالم أحمد:

>
جغرافية المكان ومعالم الزمان!! ..حبان إحدى أهم المدن التاريخية في محافظة شبوة التي ما زالت تقف على أقدامها منذ مئات السنين.. تقع المدينة على الضفة الشرقية للوادي المعروف باسمها (وادي حبان) وهي المركز الرئيس لمديرية حبان إحدى مديريات محافظة شبوة .

تتميز مدينة حبان بموقع جغرافي بانورامي ساحر .. يجعل القادم إليها لأول مرة مندهشاً بإعجاب لهذه اللوحة الطبيعية الممزوجة بحضارة الإنسان , فهي تطل على الوادي الأخضر الذي يشبه السجاد وذلك حين تحل مواسم الخير (الأمطار والسيول).. وتكتسي الأرض بحلتها الخضراء القشيبة، ويقف في ظهر المدينة درع جبلي يطوقها ويحرسها بعناية يسمى بجبل الطويل. وبجملة مفيدة نجد أن حبان تجمع بين الحقول الزراعية الخضراء والوادي الذي يسر الناظر حين تغمره وتتدفق فيه مياه السيول .. و بين العمارة الطينية بما تحتويه من تكوينات حضارية واحتضان الجبل لها .. وزرقة السماء فوقها .

يمكن للزائر أو السائح المسافر براً من عدن صوب حضرموت أن يشاهد مباني مدينة حبان الطينية الشاهقة وهي تعانق مرتفعات (جبل الطويل) وذلك في الجهة اليمنى من منتصف الطريق ، على بعد حوالي 330كم من عدن و510 كم من صنعاء و280 كم من المكلا.(1) (والصورة رقم (1) التي التقطها الباحث بعدسته أبلغ من أي تعبير) .

تكوين المدينة

تتكون المدينة من أكثر من 200 عمارة تتوزع في أربع حارات قديمة كان يقطن في إحداها ما يقارب 500 نسمة من أصل يهودي (2) . بينما يسكن في بقية الحارات أكثر من 10000 نسمه تقريباً. وهم من أهل المنطقة وإن اختلفت أنسابهم وأصولهم التي تعود إلى مناطق أخرى من محافظة شبوة ومن محافظات يمنية أخرى أيضاً ، إلا أن معظمهم قد استقر في المدينة منذ عشرات بل مئات السنين، حتى أن أضرحة أجدادهم مازالت ماثلة للعيان في مواضع مختلفة من مقابر المدينة والقرى المجاورة لها.. وتشير إلى قدم استيطانهم فيها. لقد كان يحيط بالمدينة سور قديم تهدم معظمه ويمكن مشاهدة بقايا آثاره أو ما تبقى منه في الجزء العلوي من المدينة إلى الشرق والجنوب الشرقي منها. إذ كانت حبان في فترة زمنية تعود إلى ماقبل النصف الثاني من القرن العشرين، تغلق أبوابها الرئيسة بدءاً من أذان المغرب وحتى بزوغ الفجر وذلك لأسباب اقتصادية وأمنية بهدف منع تسرب البضائع إليها ليلاً دون ضريبة حين كانت المدينة سوقاً تجارياً حيوياً يرتاده تجار وسكان المناطق والقرى الواقعة قي ظهيرها.. وذلك إبان حكم السلطنة الواحدية التي امتد نفوذها ورقعتها الجغرافية إلى أجزاء واسعة من محافظة شبوة بدءاً من منطقتي بئر علي وساحل بالحاف جنوباً مروراً بعزان والحوطة والروضة وحتى حبان وهدى غرباً .. كما شملت السلطنة أجزاء من عرما وجردان شمالاً . (انظر الخريطة رقم 2)

وتفيد المصادر والمخطوطات التي عثرنا عليها بأن فترة حكم سلطنة آل عبد الواحد في حبان وبقية المناطق التي شملتها تعود إلى أكثر من عشرة قرون هجرية .. حيث كانت لحبان في عهدهم مكانتها الإدارية والتجارية حتى أن المدينة حينها عرفت بقدوم القوافل التجارية إليها التي تأتي من مناطق بعيدة من أرض محافظة شبوة واليمن عامة .

شواهد ومعالم التاريخ الحباني

حبان في زمن ما قبل التاريخ :

إن البحث في عمق الجذور التاريخية لمدينة حبان أمر ليس باليسير لقلة المصادر عنها ، إلا انه وفقاً لما توفر لدينا من مراجع متاحة تفيد في أن وادي حبان وامتداداً إلى وادي ميفعة وبعض أودية المشرق الأخرى كانت تقع تحت نفوذ الدولة الأوسانية في فترة ازدهارها وتوسع مساحتها الجغرافية وذلك في عهد ملكها (مرتع) في فترة تعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد.

وفي مرحلة تاريخية أخرى أحدث عهداً حاول الأحباش في صراعهم مع اليزنيين أن يغزو المشرق وذلك عندما أرسل (أبرهة) أحد أتباعه ويدعى (جرة بن زبانر) لبسط نفوذه نحو المشرق حيث معقل اليزنيين.. وإبان تلك الفترة التاريخية اتخذ الأحباش من حصن كدور موقعاً منيعاً لإدارتهم العسكرية .. إلا أن أقيال المشرق وقفوا لهم بالمرصاد وقضوا على قوات أبرهة ودمروا حصن كدور *(3) . ولعل الباحث في التاريخ وعلم الآثار سيجد بقايا المخلفات الإنسانية في أعالي الجبل إذا نقب وبحث فيه .

حبان في عهد الإسلام:

عندما نأتي لنبحث في تاريخ منطقة حبان إبان العهد الإسلامي ثم الحديث من بعده سنجد أن هذه الفترة هي الأكثر وضوحاً في شواهدها ومعالمها .. وهذا ما تدل عليه الآثار وبقايا المنشآت التاريخية التي يمكن مشاهدتها على الطبيعة أو معرفة موقعها الأصلي بالنسبة لتلك المعالم التي اندثرت . ويمكننا الوقوف على أهم هذه الملامح والمعالم التاريخية حسب الآتي :

جامع حبان:

يعتبر أحد أقدم الجوامع الإسلامية تأسيساً إذ يعود تاريخ عمارته إلى عام 266هـ أي أنه بني منذ أكثر من ألف وخمسمائة سنة هجرية.. وجدد في شهر صفر873هـ، ثم أعيد بناؤه في 1386هـ (4).

وتشير المخطوطات التي حصل عليها الباحث من أهل المنطقة الموثقون ، إلى أن المدينة كانت موطن علم وعلماء تلقوا علوم الدين من منابعها في كل من زبيد وتريم وعدن والأزهر ثم عادوا وأسسوا في حبان مجالس ومدارس علوم الفقه والتفسير وأمور التربية الإسلامية.. وذلك منذ ما قبل القرن الثامن الهجري , ومن مشاهير علماء الدين في المدينة مشايخ وفقهاء من أسرة آل الشبلي الذين برعوا في مجال القضاء في المدينة وكان لهم الفضل في تأسيس أول مدرسة لتعليم أمور الدنيا والدين في قلب المدينة وأسهموا بعناية في توثيق الكثير من أحداث المنطقة حيث مازالت بعض الوثائق والمخطوطات المهمة محفوظة في دارهم القديمة التي تجاور جامع حبان. وفي المدينة نفسها نجد أيضاً السادة من آل المحضار الذين كان لهم بصمات مهمة في شئون الدين وبرز منهم العديد من العلماء المتبحرين في الفقه والحديث وتفسير القرآن .. حتى أن الكثير من نتاجاتهم المخطوطة بأيديهم مازالت هي الأخرى محفوظة في مكتبه عتيقة تدعى مكتبة الزهراء ويعود تأسيسها إلى عهدهم .

* كدور: هو جبل عال يمتاز بأن سطحه العلوي شبه هضبي ويقع على بعد كيلومترات معدودة إلى الجنوب الشرقي من حبان ويكتنز في أعاليه مخلفات أثرية ، وبيئة نباتية طبيعية.

مصنعة حبان:

وهي بناية في موقع مرتفع يطل على كل الجهات المحيطة بالمدينة، وكانت مركز قيام السلطان الواحدي واستخدمت لنواح أمنية أيضا في تلك الفترة إما لمراقبة القادمين إلى المدينة أو لأغراض أمنية أخرى .

ولم يتبق في الوقت الحاضر سوى هياكلها الأساسية , وقد بني في صلب الصخر عدد من الجوابي المائية بجوار المصنعة حيث تمتلئ بالمياه في مواسم الأمطار.

ولعل من الجدير قوله أن هذه المصنعة كانت عنوان سلطة وحكم وعينا ساهرة على مدينة تاريخية كانت تعج بألوان النشاط والعادات الإنسانية, شأنها شأن تلك الأبراج التي تشتهر بها المدن الإسلامية وتحرسها من الغارات الخارجية .

أسوار حبان وأبوابها التاريخية:

كان يحيط بمدينة حبان سور عال من الطين يحتوي على أبواب رئيسة للدخول إلى المدينة وتجاوره في الجهات المرتفعة من حبان أبراج حراسة يجلس فيها جنود السلطنة لحماية المدينة ومن فيها من أي غارة أو سطو خارجي , إلا أن هذا السور تهدم معظمه ولم يلق أي ترميم وتجديد كما هو الحال عند سور مدينة صنعاء القديمة .. أو مدينة القاهرة القديمة ، ولم يعمر طويلاً سوى عشرات السنين وما تبقى منه يرى في الجزء العلوي إلى الشرق وكذا في نواح متفرقة من حول المدينة .. حيث كانت تغلق أبواب حبان بدءاً من أذان المغرب وحتى طلوع الفجر وذلك لأسباب اقتصادية وأمنية كما أشرنا في مقدمة البحث ، لمنع تسرب البضائع إليها في المساء دون ضريبة .. حين كانت المدينة سوقاً تجارياً حيوياً يرتاده سكان المناطق والقرى المجاورة لحبان إبان حكم السلطنة الواحدية .. ومن أهم أبواب هذا السور:

باب في مقدمة المدينة ويطل على الوادي مباشرة وهو الباب الرئيس الذي تجمرك عنده البضائع.. و باب في الزاوية الشرقية .. وباب آخر في الوجه البحري، وبالقرب من هذه الأبواب التي مثلت مداخل المدينة شيدت قلاع أمنية في مواضع متفرقة كانت عيناً ساهرة على حمايتها وظاهرة من مظاهرها التاريخية.. وهذه المعالم هي الأخرى لم يتبق منها سوى أطلال وركام من الطين في المكان ذاته .

وفي أكثر من جولة استطلاعية قمت بها شخصياً.. تجولت فيها مشياً على الأقدام لمسافة حوالي 4 كيلومترات تقريباً وسط شُعب (الشقب) أحد شعاب وادي حبان حيث وجدت على الجدران الجبلية هناك الكثير من النقوش والمخربشات والكتابات التي تحتاج إلى بحث وتمحيص في معرفة أصولها اللغوية هل حميرية .. أم عبرية .. أو غيرها .. وإلى أي فترة تاريخية تعود؟؟

كما شاهدت قبوراً مازالت آثارها ماثلة للعيان قي أحد منعطفات الشُعب.. وعندما صعدت إلى أحد المرتفعات المجاورة شاهدت أحد الصهاريج أو الخزانات أو الكرفان المائية الطبيعية التي عمقها الإنسان بالنحت في قلب المرتفعات مستخدماً معاوله البدائية وقوته العضلية وإرادته لكي يضمن موردا مائيا يروي عطشه وظمأ حيواناته .. وليسد حاجة قوافل الجمال التي كانت تسلك طريق شعب وادي الشقب في الزمن القديم .. كما نعتقد .. وكما علمنا من بعض المعمرين الذين استوطنوا في المنطقة وكانت لهم رحلات مع القوافل عبر هذه الشعاب مع آبائهم وأجدادهم.

ما المطلوب حفاظاً على الطابع الروحي والتاريخي لمدينة حبان؟

لكي تبقى هذه المدينة حاضرة تاريخية على سطح الأرض وليس في بطنها وقبل أن تتحول إلى أطلال وينساها الناس بل وتسقط من ذاكرة التاريخ، وحتى تظل حبان معلما تاريخياً ومتحفاً سياحياًً حيا ولتحتل مكانها اللائق بها بين المدن التاريخية في اليمن والعالم أجمع .

نرى أن المطلوب حفاظاً على الطابع الروحي والتاريخي للمدينة ضرورة الاهتمام وتبني وتنفيذ الجهات الرسمية والشعبية والمنظمات الدولية المعنية بحماية وصيانة المدن التاريخية الآراء التالية:

أولا: - انتزاع اعتراف قانوني محلي وطني يضع مدينة حبان في مصاف المدن التاريخية اليمنية بحيث تنطبق عليها شروط وحقوق صيانة وحماية المدن التاريخية ويمنع إجراء أي تغيير على طابعها العمراني والتراثي إلا بترخيص وبما يخدم النسق العمراني القديم دون تشويه أو تغيير في ملامح البلدة.

ثانيا: - الإسراع وبصورة أولية إلى معاينة عشرات العمارات الطينية التي تصدعت في حارات المدينة وحصرها وجمع المعلومات المباشرة عنها وأيضاً تلك المهددة بانهيار في ظرف السنوات القادمة , وكذا معرفة عدد المباني القديمة والمغلقة التي هجرها أهلها بسبب العمل في مدن اليمن الأخرى أو بالهجرة إلى الخارج واستقروا هناك لأن بقاءها مغلقة دون عناية وصيانة معناه لا محالة أنها ستأخذ دورها في الانهيار والانقراض.

ثالثا: - التفكير والتنسيق مع إدارة كوارث السيول في محافظة شبوة والجمهورية عموما في إمكانية بناء دفاعات وحواجز حول جوانب المدينة حماية لها من الفيضانات المائية التي تحدث في وادي حبان أثناء مواسم الأمطار والسيول.

رابعا: - البحث في إمكانية تبني إعادة بناء أبراج المدينة والمصنعة وكذا السور من مادة الطين حول المدينة الأصلية على النمط القديم لما فيه مراعاة تحديد مداخلها الرئيسة ورصف أزقتها بالحجارة ، بهدف إحياء تراث المدينة وإنعاش الحركة السياحية فيها.

خامسا:- دراسة إمكانية طلاء العمارات القديمة في المدينة باللون الأبيض بمادة (النورة) ليعطيها الشكل المتميز مع عدم السماح للعمران الحديث الذي يخالف النمط المتميز والمتناسق للمدينة .

سادسا:- جمع ما يمكن جمعه من الأدوات والمخلفات الأثرية التي كانت متداولة بين أوساط سكان المدينة في الزمن القديم وتخصيص موقع داخل المدينة يعرف باسم (متحف الموروث الشعبي لمدينة حبان).

سابعا: - حث الجهات المختصة بالدولة على فتح مكتب حماية وصيانة المدن التاريخية- فرع شبوة.

إن الحديث عن حبان من زاوية تاريخية لا يقتصر على هذه الوقفة الموجزة .. بل يمكن للباحثين والمختصين المهتمين بحضارة المدن التاريخية أن يجدوا في دراسة هذه المدينة مرتعاً خصباً لإعداد أطروحات علمية نافعة ونادرة في آن واحد خاصة وأن هذه المدينة لم تحظ بالعناية والصيانة .. كما هو الحال بالنسبة لمدن تاريخية أخرى مثل شبام وصنعاء ..اللتين نالتا قسطاً كبيراً من العناية والدراسة .

فهل نأمل أن يكون ما تناولناه هنا من إطلالة ميدانية عابرة لمدينة حبان .. بداية لتوجيه أنظار السلطات الحكومية وجهات الاختصاص والمعنيين بشئون البيئة والتراث والآثار والمدن التاريخية .. نحو الإسراع في إعطاء المدينة حقها من الاهتمام قبل أن تطمس آخر آثارها ومعالمها وتتغير ملامحها العمرانية المتميزة بفعل الإنسان وعوامل التعرية المائية والهوائية!!

أستاذ الجغرافيا السكانية

كلية التربية شبوة - جامعة عدن

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى