المكلا لاتنام!

> صالح حسين الفردي:

> (1).. ينتابني شعور بالغبطة، وأنا أقترب من الشوارع الخلفية لمدينة المكلا، القديمة منها على وجه التحديد، تلك الشوارع التي كانت حتى زمن قريب يحنو عليها ساكنوها فتضيق عليهم تحببا وتلطفا، وتنفتح بهم فرحا ومرحا، المكلا مدينة لاتنسى محبيها ولاتنكر أو تتنكر لعشاقها الذين يقتربون من وجيعتها وينصتون لصوتها المبحوح بصدق، بعد أن تباعدت أطرافها وتقلبت أوساطها، وسدت مساماتها.. هي مدينة إن دنوت منها شبرا تندفع إليك مترا أو يزيد، أي كرم هذا!. أيتها المدينة السابحة في فضاء الوجد، المحوطة ببياض القلوب، أي شعور ينتابك اليوم وقد تنكر لك بعض من بنيك وثمرة عطائك النبيل.

(2)

تلك خاطرة تدفعني كثيرا للعودة إلى تلك الشوارع (المطاريق) بمسمياتها الممتدة من مقهى (أسوان) في حي السلام صعودا إلى الجبل المنصوب، هبوطا إلى الشارع العام القديم للمدينة مرورا بمقهى (بن شهاب) في حي الصيادين بلوغا إلى مقهى (الغالبي) في حي الشهيد خالد وما جاوره من يابسة حتى ملامسة البحر الأمين. جولة تضعك ولوحة حب وود وتعاطف وتماهٍ لا نظير لها في مدننا الأخرى، يكفي أن تقف متأملا تلاحم تلك البيوتات المكلاوية القديمة وحنوها الكبير على قاطنيها لتكتشف نبضها الحقيقي ووعيها الأليف، وصدقها النقي، فللمكان وقعه الخاص على سلوكيات ساكنيه، فما بالنا بهذه الدرة البيضاء وهي مؤتلفة بنبض واحد وأذرع مختلفة، قد يتساءل الكثيرون ما الرابط بين ما تقدم وعنوان المقال، ولكن، هناك تكمن الحكاية التي سأسردها، لعل البعض يستفيد منها إن رغب في ذلك.

(3)

في جولتي الأخيرة الأسبوع الفارط ألقت بي الصدفة إلى مواجهة شيخ مسن تجاوز الثمانين عاما، ومازال محتفظا بوقاره وكثيرا من هيبته التي تظهرها تقاسيم وجهه المثقل بتعب السنين الخوالي، تطفلت عليه في جلسته على (دكة) منزله مدعيا السؤال عن شخص بعينه، فأجاب: (بو فلان) مكانه معروف، لكن يا ولدي شكلك منته غريب، قلت: صحيح، ولكنني غبت عن المكلا أكثر من عشرين عاما، تغيرت جم جم!. رد بثقة: ما تغيرت، بس بها تعب وسهون وغبون واجدة، كيه يا والد؟.. سمع مني وفهم، زمان يا ابني كان بوتنا عندما تتنفخ بطن واحد منا لأي سبب كانوا يقولون له ما لك إلا الكي، يرشنون في الحطب ويعدون السيخ العريض للسعه في أعلى بطنه، ولكنهم يجعلون ذلك آخر العلاج، مش آخر العلاج الكي ولا لا.. وبعد أن يحمر السيخ، يكتفه الرجال ويقترب منه حامل السيخ، وفي طرفة عين يدس السيخ في جردل ماء، ولما يسمع الموجوع بطفيش الماء وطرطشته تنخفض بطنه ويروح المرض والباقي أنته عارفه، قلنا: وما الغرض من هذه القصة، رد بحذق: شف يا ولدي، بالأمس الناس تخاف من الكي عن بعد، وكان فيه علاجها، أما اليوم فالكي بهم كل يوم في لحم، حتى أصبح الواحد منهم يتوجع في كل ساعة وحين لمجرد الراحة وتخفيف الهم، والعجيب أنك لو جيت باتطبطب على كتف أي منهم تجده يظنها كية، فيئن ويتوجع لمجرد الاقتراب منه، فهمت؟ (......) واصل حديثه: الخلاصة شلها مني ريت الجماعة عيالنا المسئولين حق المكلا أول يعبرون شوية كذا في الشوارع الخلفية بعد المغرب بعد العشاء المهم يشوفوا (المصايب) التي تعاني منها المكلا، كل شيء ما هو في مكانه بتاتا، ولا هو ريض، شوية بس كذا يتنازلون ويعدون علينا حتى بسياراتهم وينظرون الحال، ثم يرجعون يا ولدي إلى ديارهم الكبيرة المرتفعة في الجبال.

صمتّ كثيرا ولم أحر جوابا، ولكنني أيقنت أن المكلا لاتنام!.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى