سيفان في غمد واحد

> فضل النقيب:

> فجأة وكأننا أسلمنا يوم أمس أطل علينا من أسموا أنفسهم بـهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما كان الأمر ليثير هذا الهلع الاجتماعي، ويصبح حديث المجالس لو أن المسألة أمرٌ ونهيٌ في إطار قول الله تعالى:(ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن,ذلك لأن الأمر والنهي أفقٌ مفتوحٌ كالسماء، ولو أن كل واحد أخذ عصاه وخرج إلى الشارع ليكون الناس على شاكلته لما بقي رأسٌ غير مشجوج، ولا بقيت روحٌ غير مجروحة، ولا تفرغ الناس لعمل ولا إنجاز ولا إحسان، وقد لدغ الناس من هذا الجحر مرارا، لذلك لن يأخذوا الأمر مأخذا عاديا.

وقد سألت أحد كبار شيوخ اليمن عن الأمر، فأجابني وهو يبتسم: هذه عودة إلى زمن محاكم التفتيش. أما هلع الناس فلأنهم نظروا إلى الوجوه نفسها فاستنتجوا ما دلتهم عليه ذاكرتهم. ومضى الحديث على مائدة الطعام رقراقا صافيا ننتقل من موضوع إلى آخر، فالشيخ خفيف الروح، وسطي الرؤية، على عكس ما كنت أتصوره عنه، لأن مصيبتنا في الشيوخ أن الواحد منهم إذا استلم المنبر وسيطر على الميكرفون أطلق لمخزونه العنان دون أن يبالي فيما إذا كان الكلام يناسب المقام، أما إذا علا صوته وجلجل فإنه لايعود يدري ما يقول، وهذا الأمر يعود إلى المنهج التلقيني الحفظي الذي يلغي العقل، وينظر في الصوت والصدى ليس إلا، ثم إذا جلست إليه وهو يفكر ويتحدث كما يتحدث سائر عباد الله ممن لايدعون وصاية ولا ولاية وجدته بشرا سويا، يمكن الأخذ والعطاء معه، وينطبق عليه ما ينطبق على غيره من محدودية العلم، والقابلية لأن يكون اجتهاده صوابا أو خطأ، كما نجد صوته رقيقا هادئ النبرة، لاينفرّك ويجعلك تخرج من جلدك قبل أن يحين أجلك.

المهم.. أنه وفي لهجة بين الجد والمزاح قلت للشيخ ونحن نتوادع: هل تسمح لي يافضيلة الشيخ بنشر رأيك عن عودة محاكم التفتيش منسوبا إليك. فبُهت الرجل كمن لدغه ثعبان، وقال لي: أرجوك لاتفعل وإنما المجالس بالأمانات ووالله لو فعلت لسمعت عن قذائف البازوكا تدك بيتي على رأسي ليلا. إذا الأمر جد خطير «ولايعرف رطني إلا ولد بطني» كما يقول المثل الصنعاني. قلت له: أعدك ياشيخ بعدم ذكر اسمك على وجاهة رأيك وحسن تمثيلك. وقد مضى شبه مطمئن، وأحسست أنه فيما وراء لسانه يبسمل ويحوقل ويستعيذ برب الفلق من أشياء يراها ولا أراها أنا، حتى ركبني الخوف، فقرأت الفاتحة والمعوذتين.

على كل حال.. أنا شخصيا لا أشك بحسن نوايا هؤلاء، لكنني كلما تذكرت المثل القائل: إن الطريق إلى جهنم مفروش بالنوايا الحسنة، أعيد تقليب الأمر على وجوهه، فقد عرف غيرنا مثل هذه الهيئة معرفة وثيقة مديدة وذات أنياب وأظفار، وانتهوا إلى أن شر الأعمال قد تنبت في أطهر الأفكار مثل خضراء الدمن، وذلك إذا ما تُرك الحبل على الغارب لمن يهتدون بكواكب من الأعلام، ثم يضيّقونهم - بالشدة على الياء- ويضيقون بهم حتى لاتجد لتلك المثل العليا أثرا في عملهم اليومي الذي يتصف بالجمود والتعالي وادعاء المعصومية والإحاطة، ومن ثم يبدأون جلدا وسلخا في عباد الله الذين يسيرون على الأرض هونا لأسباب واهية لايقبلون عليها اعتراضا، ففي اعتقادهم أنهم هم المكلفون من السماء بإقامة حدود الله وتأديب من على الأرض من الخراف الضالة.

وهذا شأن محاكم التفتيش التي أشار إليها شيخنا المومأ إليه صفة بلا اسم، فقد نشأت تلك المحاكم في الأندلس لتنصير المسلمين، والتفتيش في نواياهم وبيوتهم وأعمالهم وملابسهم ولغتهم المحلية، ففتنوا البعض عن دينهم تجنبا للأذى وصونا للأولاد والأهل واتخذ البعض الآخر طريقهم في البحر سربا إلى الجانب الآخر حيث المغرب العربي ومازالوا إلى اليوم يعرفون بالأندلسيين.

وكانت محاكم التفتيش ضمن أفجع الفظائع في التاريخ البشري، فيما كان أصحابها يعتقدون أنهم يتقربون إلى الله زلفى، وتجربة (طالبان) لم تغب ولن تغيب عن أي متابع لنشوء العقائد الجديدة ومترتباتها وتحولاتها، فحين كان (طالبان) المشتقة من كلمة (طالب) العربية يدرسون في باكستان كانوا أنموذجا للبساطة والتقشف والعزوف عن الحياة الدنيا، والتطلع إلى الأخرى، ولذلك استبسلوا في كنس أمراء الحرب، ولكنهم عندما تمكنوا من الحكم والتحكم برقاب الناس طبقوا بعض الكتاب وتناسوا البعض الآخر، وجعلوا من أنفسهم مرجعيات تعلو على أي مرجعية، وأخذوا الناس بالعسف والعنفوان، متناسين قوله جل وعلا لأعظم الرحماء وأحكم الحكماء وسيد الأنبياء: «ولو كنت فظا غليط القلب لانفضوا من حولك».

إن دولة دينية داخل دولة دستورية هي مثل وضع سيفين في غمد واحد، ولابد أن يتشقق هذا الغمد، وهو هنا الشعب، وعلى الدولة الدستورية أن تضع الأمور في نصابها، وإلا سيكون مآلها كما قال الشاعر:

رب يوم بكيت منه فلما

صرت في غيره بكيت عليه

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى