إلى والدي في ذكرى وفاته الأولى (تكملة)

> «الأيام» عبده يحيى الدباني:

> ..أجل لقد تماسك الأهل حين رأوني محتسبا متماسكا، عجب الناظرون من أمري، ولم يجدوا أنفسهم بحاجة إلى أن يأخذوا بيدي أو ينحوني جانبا بعيدا عن مراسيم الغسل وتجهيز الجنازة. لقد شاركتهم في غسل الميت وتكفينه رغم ضعف خبرتي بذلك، وحملت معهم النعش، ومن ثم سرت وراء الجنازة مستعبرا مهللا، صلى عليه جمع كبير بعد صلاة المغرب، وقفت خلف الإمام، كان الإمام أحد طلابي فوجدت في ذلك عزاءً سريعا، سرعان ما سرنا به إلى مثواه الأخير، وسَّدناه مكانه، وكُشف قليلا عن وجهه، وسرعان ما أهالوا التراب على القبر، حتى في هذه شاركتهم على كثرتهم، كان تراب المقبرة قد تحول إلى طين بفعل المطر، كان الصبيان يحدقون في وجهي وينظرون إلى القبر، غادر الناس المقبرة سريعا أردت أن أتريث قليلا، أبقى بعدهم، فأقرأ الفاتحة على روحه وأدعو له، ولكن الرجال دفعوني بقوة إلى مغادرة المقبرة، كان الليل قد هبط على الجبال حين هبط أبي إلى لحده، وهناك وراء الجبال نحو الغرب كانت بقع حمراء تذكر بالشمس التي اختفت فجأة، وددت لو أبقى إلى جوار منزله الأخير طويلا لم يكن قبره موحشا كان يشدني إليه، كما كان يشدني مجلسه في حياته، ومن حوله هيبة وهالة رحمه الله ما أطيبه!.

ما أطيب العيش إلى جواره! لقد هرم جسده، أما قلبه فقد ظل شابا حتى وفاته! حتى موته لم يكن مخيفا مزعجا، كان مباركا تلقائياً كحياته، وكذلك كان العزاء، حتى السماء ليلتها أهدت إلى الأرض والزرع الحياة. كان يحب المساكين، عطوفا عليهم، خاصة النساء العجائز الأرامل، كان يذكرهن لي بالاسم ويعدهن عدا، ويشرح لي أحوالهن البائسة. كنت أستمتع بحديثه وأستعبر، وأحيانا أبعث إلى أي منهن بصدقة عبره. كان يحب المواشي.. بقرا أغناما حبا أصيلا فطريا ويبتدع لهن أسماء ويناديهن بها، وكانت هي تدرك ذلك وتبادله حبا بحب.

كان يخيل لي أن عددا من الأطفال يرتعون داخل هذا الرجل حين يكون راضيا، أما حين يغضب فإنه كان يتحول إلى عاصفة، أسأل الله أن يغفر له ذنوب غضبه، كنت عادة أسير خلفه وهو يردد أراجيز وأشعارا مما يحفظ، وكذلك أثناء العمل، كانت غالبا ما تكون حماسية كفاحية صلبة مثل صخور جبال القرية، بعضها من شعره وبعضها لآخرين من مثل الشاعر عبدالله محسن الجعشاني وسيف أحمد الجباري ومحمد ناصر الباقري وغيرهم، بينما في الأعراس كان يقدم للنساء شعرا خاصا بأوزان قصيرة، فيرددنه بطريقة جماعية خاصة شجية، كان ذلك الشعر نفسه رقيقا شجيا، ثم تضفي عليه النساء صفات أخرى تعزز معانيه وتجسدها، كان في شعره ذلك يتحول إلى طير فيغادر أجواء القرية سابحا في الفضاء باتجاه الشمال حتى يحلق على بعد فوق مكة وجدة، وبالذات فوق حي الجامعة في جدة حيث يقيم ثلاثة من أولاده مع ذرياتهم. أتخيله وهو يعبر فوق الحدود المصطنعة من غير تفتيش، ويقطع المسافات الطويلة عبر المدى ويصارع الرياح والأنواء، حتى يصل إلى أحبابه من الأولاد والحفدة.

ياليتنا طير باعلي معك يالحيود

لما التوي فوق جدة حيث زرع الكبود

فيا قرائي الأحباء سامحوني، وقولوا معي: يرحمه الله تعالى!.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى