قصة قصيرة (إراهي)

> «الأيام» مازن فاروق رفعت:

> إلى روح كافحت وغلبت الكفاح.. نفض عني تأملاتي صوت رنين هاتفي الخلوي، نظرت منزعجا إلى الساعة التي ناصفت الليل تماما، بيد متكاسلة تناولت الهاتف، نظرت إلى الشاشة لأعرف صاحب الاتصال، ولم أكد أفعل حتى اتسعت عيناي وشعرت بتيار كهربائي يسير في أوردتي، وأنا أنظر إلى اسم صاحب الاتصال، أخذ إبهامي يرتجف وهو يضغط على زر الـ (OK)، ألصقت الهاتف بأذني وأجبت بصوت ممزوج بالخوف والشك والانزعاج.. الخوف من أن الأمر حقيقة، والشك من الحقيقة نفسها، والانزعاج من ما إذا كان في الأمر مزحة ما:

- ألو!!.. نعم!!.

- كيف أنت يا (أبو الهناء)!.

كان الصوت كافيا ليجسد شعوري الأول، الذي طغى على الاثنين الآخرين، النبرة هي هي! كما أن لا أحد يدعوني بـ (أبو الهناء) سوى شخص واحد:

- من الذي يتحدث معي؟!.

- أخ!.. لا يا (أبو الهناء) لم يكن هذا عشمي بك.. لقد أصبتني في مقتل!.

- أنت (...)!!.

- بالطبع أنا (...) من سيكون غيري؟!.

- ولكن هذا مستحيل؟!.

- ما هو المستحيل؟!.

-أنت ميت!... ميت منذ أسبوع، وقد حضرت جنازتك!.

- إذا كنت ميتا كما تقول، فكيف أحدثك عبر الخلوي.. هه؟!.

- لكنك ميت!.. وقد حملت جثمانك بيدي!!.

- هل أنت متأكد من أنني ميت؟!.

لأول مرة أشعر بهذه الحيرة، ليست حيرة بل هو شك.. شك من نفسي، هل أنا صاح أم أنني أحلم.

-اسمع يا (أبو الهناء) إذا كنت تريد أن تتأكد من أنني حي أم ميت، سألاقيك غدا في منتصف النهار، وأنت تعرف أين! إلى اللقاء.

انتهت المكالمة.. إلا أن الصدمة أكبر من ردة أفعالي، لكنها أصغر من يقيني من الصوت! ومن صاحبه.. تعارفنا في بداية دراستنا الجامعية، كان في بداية عقده الثالث، وكنا في بداية تفتح أزهار شبابنا التي كان هو رحيقها، درس وتفوق على أساتذتنا، حتى إنه كان يحاضرنا بعد المحاضرات، ويلخصها لنا في ورق، لذا فإن نجاحنا هو في المقام الأول نجاحه.

أحب.. نعم! أحب مثلنا، والتي أحبها لم تشعر بفارق السنين التي بينهما، لأنه كان أقرب إلى قلبها من تلك السنين، وأكثر شبابا من حبها. رُفض من أهلها مرتين، لكنه لم يستسلم، عمل في مهن متواضعة وصبر، حتى جاء الفرج، وتعين في شركة كبيرة. لم تمض أشهر حتى بات رجلها الأول، وحظي بموافقة أهل من أحبها، وتمت الخطبة.

انشغل بتجهيز منزلهما البسيط في انتظار المستقبل المشرق، لكن القدر كان صاحب الكلمة الأخيرة، بحادثة سيارة انتهى كل شيء.. نفض عني ذكرياتي صوت منبه الهاتف الخلوي، الساعة ناصفت النهار.. إنه الموعد! كنت في المكان الذي اعتدنا اللقاء فيه، رحت أتلفت هنا وهناك بتوتر وقلبي يخفق حتى كاد أن يحطم ضلوعي، لكنني فجأة أحسست إحساسا غريبا جعلني أصوب نظري نحو نقطة معينة، على بعد أمتار مني لمحت شبحا يتجه صوبي، لم أستطع تبينه، نهضت من مكاني وخطوت بضع خطوات، لكنني مازلت عاجزا عن تحديد ذلك الشبح، إلا مشيته بدت مألوفة.

وبينما أنا أقف مراقبا، لم أشعر بالسيارة التي صدمتني من الخلف، لأجد نفسي أتقلب فوق مقدمة السيارة لأصل لسقفها، ثم أعود أدراجي إلى الأرض، حصل كل هذا في لحظة، فتحت عيني بصعوبة ونهضت، لأجد جمعا من الناس ملتمين حول السيارة، رحت أنادي عليهم:

- أنا بخير! لاتقلقوا!.

يد تمسك بكتفي من الخلف، التفت، المرحوم!!.. كان يقف أمامي مبتسما ابتسامة مشرقة، وبدأ على محياه نور، هتفت بانفعال: (...)!!.

- كيف أنت يا (أبو الهناء)؟!.

- أنا بخير!!.. لكنك!.. أنت!!.. حي!.

- بالطبع أنا حي! ماذا كنت تظن؟!.

- ولكن كيف؟!.. لقد..

قاطعني بوضع كفه على فمي، ثم تناول قلما من جيب سترته، وكتب على كفي (إراهي).

(إراهي)!.. إنه الاسم الذي كنت توقعه في ملخصاتك للمحاضرات التي كنت توزعها علينا! أليس كذلك؟!.

- أجل هذا صحيح!.

- ولكن ماذا تعني بها؟!.

- إنها ترمز لأشياء عزيزة على قلبي!.

- أشياء!.. أية أشياء؟!.

لم يجب بل اكتفى بأن غمز لي وهو مبتسم بتلك الابتسامة التي بدت كنور الفجر، وأدار لي ظهره وابتعد، ناديته، لكن ظلمة غشيتني للحظات، بعدها ازدحمت في أذنى أصوات تهتف:

- انظروا لقد بدأ يتنفس!.

- حمدا لله!.. إنه حي!.

- ها هو يفتح عينيه!.

بصعوبة فتحت عيني لأرى وجوها تظللني، وأنا ممد على الأرض لم أستوعب ما حصل لي.

- أين أنا؟.. ما الذي حصل لي؟.

- أنت بخير يا ولدي! لقد نجوت بأعجوبة!.

حاولت النهوض، شعرت بآلام فظيعة في أنحاء جسمي، أعانوني على النهوض، رأيت أحدهم يبكي أمامي منهاراً متوسلا الصفح مني، عرفت فيما بعد وهو يأخذني إلى المشفى أنه السائق الذي صدمني.

الحمد لله لم تكن هناك كسور سوى بعض الرضوض، طلبت من السائق أن يعيدني إلى المكان الذي صدمني فيه، تعجب وحاول أن يقنعني بالعودة إلى منزلي، لكني كنت مصمما، فرضخ في النهاية لمطلبي، وعندما وصلت رحت أتأمل المكان، ثم نظرت إلى الأفق متذكرا ذلك الوجه الحزين البشوش، وتلك الابتسامة المتألمة والمتأملة، لقد كان على حق! إنه حي!.. حي في قلوبنا!.. حي في معاني كلمته الغامضة!..إنه حي..!!.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى