الوداع المر..

> «الأيام» د. جنيد محمد الجنيد:

> من الصعب في لحظات الفجيعة أن نلتقط مفردة للتعبير عن الحزن الذي يسكننا ويزدحم في دواخلنا برحيل الشاعر الكبير محمود درويش.. هذا الشاعر الذي أطل علينا من عصافير بلا أجنحة في أولى بواكيره الشعرية وحتى أثر الفراشة وآخر قصيدة نشرها سيناريو جاهز وما ألقته تجربته الشعرية من ظلال وأبعاد على عصر بأكمله.

وما تركه في جماليات اللغة العربية.. حيث ظل حتى آخر نص يواصل مشواره الإبداعي ويطور مشغله الكتابي ويثري أبجديتنا بإمكانيات إبداعية تجعل العربية أن تتباهى بإيقاعها وجذوتها وحيويتها بين كل اللغات الأخرى، ومثل شعره إضافة مهمة إلى حداثة الشعر العالمي.. لقد استطاع بشعره أن يرفع الشعر العربي في عصرنا إلى عصور الشعر العربي الذهبية، فذلك عصر امرئ القيس وعصر المتنبي وهذا عصر محمود درويش، الذي أدخلنا في مدارات كونه الشعري، فتألقت ذائقتنا في هذه الأرض التي تستحق الحياة.. وكنا دائماً نحتفي بشعره الذي يتشكل فينا، وكانت العواصم تتزين بزيارته، وكان لعدن الأثيرة في قلوب الشعراء تشكيلها الأنيق الممتد بين الجبل والبحر، واحتفاؤها الخاص بالشعر، فكرمته أكثر من مرة، فما كان منه إلا أن بادلها وكرمها بالقصيدة:

ذهبنا إلى عدن قبل أحلامنا فوجدنا القمر

يضيء جناح الغراب. التفتنا إلى البحر، قلنا: لمن

لمن يرفع البحر أجراسه، ألنسمع إيقاعنا المنتظر؟

ذهبنا إلى عدن قبل تاريخنا، فوجدنا اليمن

حزيناً على امرئ القيس، يمضغ قاتاً، ويمحو الصور

أما كنت تدرك، ياصاحبي، أننا لاحقان بقيصر هذا الزمن

ذهبنا إلى جنة الفقراء الفقيرة، نفتح نافذة في الحجر

لقد حاصرتنا القبائل ، ياصاحبي، ورمتنا المحن

ولكننا لم نقايض رغيف العدو بخبز الشجر

أما زال من حقنا أن نصدق أحلامنا، ونكذب هذا الوطن

في لحظة موت مؤقت عاشها الشاعر في عام 1998م كتب جداريته وفي رحيله الأبدي سنقرأه في كل شعره الذي يستوطن الآن بين جداريات قلوبنا.. في كل قصائده يطفو حدسه الشعري.. ترى هل صدق هذه المرة حدسه حين أرخ في قصائده الأخيرة ليوم موته:

صدقت أني مت يوم السبت،

قلت: عليَّ أن أوصي بشيء ما

فلم أعثر على شيء..

وقلت: عليَّ أن أدعو صديقاً ما

لأخبره بأني مت

لكن لم أجد أحداً..

وقلت: عليَّ أن أمضي إلى قبري

لأملأه، فلم أجد الطريق

وظل قبري خالياً مني

وقلت: عليَّ واجب أن أؤدي واجبي:

أن أكتب السطر الأخير على الظلال

فسال منها الماء فوق الحرف..

قلت: عليَّ أن آتي بفعل ما

هنا، والآن

لكن لم أجد عملاً يليق بميتٍ

فصرخت: هذا الموت لا معنى له.

عبث وفوضى في الحواس،

ولن أصدق أنني قد متُّ موتاً كاملاً

فلربما أنا بين بين

وربما أنا ميت متقاعد

يقضي إجازته القصيرة في الحياة!

لقد استطاع هذا الشاعر أن ينجز مشروعه فينا.. فكتب انتصار فلسطين القادم في كل قصائده.. وكتبنا أمة قادرة على الإبداع إلى الأبد.. سيظل الشاعر الكبير محمود درويش حياً في ذاكرة أمتنا العربية. ولعصور قادمة، لأنه الوجدان الجمعي لهذه الأمة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى