درويش.. عدن إلى آخر الموج تحييك

> «الأيام» عبدالرحمن عبدالخالق:

> أن تفتح ديوان الشاعر العربي الكبير محمود درويش يعني أن تفتح نافذة على الحياة؛ الحياة بوجوهها كافة.. حتى الوجه القاتم- فيها- نجد درويش ناصبا خيمته، مولعا فانوسه السحري البديع، موليا وجهه شطر وطنه منشدا للإنسان.. وللحياة يغني.

(قالت امرأة للسحابة: غطي حبيبي

فإن ثيابي مبللة بدمهْ

إذا لم تكن مطرا ياحبيبي

فكُنْ شجرا

مشبعا بالخصوبة، كُنْ شجرا

وإن لم تكن شجرا ياحبيبي

فكن حجرا

مشبعا بالرطوبة، كن حجرا

وإن لم تكن حجرا ياحبيبي

فكن قمرا

في منام الحبيبة، كن قمرا) 1

محمود درويش صاحب قضية، قضيته الأرض والإنسان، قضيته الحياة نفسها، والشعر وسيلته وغايته.

محمود درويش لايفصل أبدا بين الحياة وقضية شعبه، الأولى عنده تقود إلى الثانية، والثانية لاتتنفس إلا في قلب الأولى.

قبل أربعين عاما أجاب محمود درويش- بيقينية - عن سؤال حول الدور الذي يطمح أن يؤديه في الشعر وبوساطة الشعر بالقول: «أن أنقل قضية شعبي بكل أبعادها إلى الصفحات التي نستحقها في ديوان الشعر الإنساني، فهذه القضية حلقة في صراع الإنسان المسحوق ليأخذ دوره في الحياة وفي نشاط البشرية».

(أنا الأرض

والأرض أنت

خديجة! لا تغلقي الباب

لا تدخلي في الغياب

سنطردهم من إناء الزهور وحبل الغسيل

سنطردهم عن حجارة هذا الطريق الطويل

سنطردهم من هواء الجليل)3

إيه.. درويش.. أيها الشاعر الجليل، أتيتنا كبيرا، فلسطينيا، عربيا، أمميا بامتياز، وعشت بيننا كذلك، عشت رافعا هامتك، ومعك ارتفعت هامة كل فلسطيني، وها أنت تغادرنا مرفوع الهامة أيضا.. سُجيت على ظهر موجة ليسكنك البحر، ولتسكن القلب قرنفلة.

(أنا شاهد المذبحة

وشهيد الخريطة

أنا ولد الكلمات البسيطة

رأيت الحصى أجنحة

رأيت الندى اسلحة

عندما أغلقوا باب قلبي عليّا

وأقاموا الحواجز فيّا

ومنع التجول

صار قلبي حارة

وضلوعي حجارة

وأطل القرنفل

وأطل القرنفل) 3

أعذرنا درويش إن لم نستطع القول لك ما قاله يعقوب لابنه يوسف:(يابني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين).. بل طلبنا منك حبا أن تقصص علينا رؤياك.. أن تغننا شعرا جميلا، فكان هذا اختيارك، لأن على الأرض - فعلا - ما يستحق الحياة.

(أنت فتُوَّتي وأنا خيالك. فانتصب

ألفا، وصُكّ البرق، حُكَّ بحافر

الشهوات أوعية الصدى، واصعدْ

تجدد وانتصب ألفا، توتَّر ياحصاني

وانتصب ألفا، ولا تسقط

عن السفح الأخير كراية مهجورة في

الأبجدية. لم نعد في الريح مختلفين،

أنت تعِلّتي وأنا مجازك خارج الركب

المُروّض كالمصائر، فاندفع واحفر زماني

في مكاني يا حصاني)4

محمود درويش لا أدعي نعيك.. فماذا عساني أقول أمام جلال موتك.. فهي لحظة توازي سنوات عمرك، وتمتد في أفق الخلود.. إنما هي تحية لفارس مازال يمتطي صهوة الشعر والحياة.

درويش مازلت أتذكر آخر مرة وقفت فيها أمام عدن مخاطبا إياها شعرا.. لم تأتها متزلفا، لأن التزلف خارج قاموسك.. عدن حلم الفقراء وموئل البسطاء.. جئتها والمشنقة ثعبانا يلتف على جيدها.. جئتها شعرا:

(ذهبنا إلى عدن قبل أحلامنا، فوجدنا القمر

يضيء جناح الغراب.. التفتنا إلى البحر قلنا لمن

لمن يرفع البحر أجراسه، أنسمع إيقاعنا المنتظر؟

ذهبنا إلى عدن قبل تاريخنا، فوجدنا اليمن

حزينا على امرئ القيس، يمضع قاتا ويمحو الصور

أما كنت تدرك، ياصاحبي، أننا لاحقان بقيصر هذا الزمن؟

ذهبنا إلى جنة الفقراء، نفتح نافذة في الحجر

لقد حاصرتنا القبائل يا صاحبي، ورمتنا المحن

ولكننا لم نقايض رغيف العدو بخبز الشجر

أما زال من حقنا أن نصدق أحلامنا، ونكذب هذا الوطن؟)..

عدن يا درويش تحييك.. وتحملك على أهداب أمواجها محبة وشعرا لذيذا.. لذيذا إلى آخر الموج.

1- من قصيدة (حالة حصار)

2، 3 - من قصيدة (قصيدة الأرض)

4- من قصيدة (جدارية)

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى