محمود درويش.. مقاتل سلاحه الكلمة

> «الايام» د. عيدروس نصر ناصر:

> رحل محمود درويش ، ذلك الشاعر الذي ملأ الدنيا صخبا وضجيجا على مدى أكثر من خمسين عاما بشعره الأخاذ وبصوته الجهوري وببلاغته المبتكرة، رحل فجأة ودونما إعلان عن وعكة صحية أو خبر عن دخول لمستشفى، وإن كان قلبه الكبير قد أثخنته الآلام وأرهقته الأثقال المتراكمة على مر السنين، كيف لا، وهو الذي حمل هم الشعب الفسلطيني داخل هذا القلب المتعب، وراح يرحل به عبر أقطار وبقاع الأرض في براريها وبحارها، في أجوائها ومدنها وأريافها، وما كاد يستقر به المقام داخل الوطن الواقع تحت نيران الاحتلال حتى تكالبت الأمراض على هذا القلب المشحون بالهم والإبداع والابتكار.

محمود درويش يمثل توأما ملازما للنكبة الفلسطينية والعربية، مثله في ذلك مثل كل الذين أفاقوا على عصر النكبة، وإن تفوق على الكثير منهم بوصفه شاعرا له عين ثالثة يرى بها ما لايراه الإنسان الاعتيادي (على حد تعبير جبران خليل جبران)، تألم بما أتت به النكبة من آلام، وعاصر بعض لحظات الزهو التي صاحب بعض محطاتها، وتفاءل بما أتت به من عناصر التفاؤل وتشاءم بما حملته من عناصر الإحباط واليأس، لكنه لم يفقد قط الأمل بانتصار قضيته، وفي كل المراحل كان الشعر هو البلسم الذي يجابه به الآلام، وهو السلاح الذي يقاوم به الظلم والقهر، وهو المرهم الذي يضمد به الجراح مهما كانت طبيعتها.. ألم يقل يوما:

شدوا وثاقي

وامنعوا الدفاتر والسجائر

وضعوا التراب على فمي

فالشعر دم القلب

ملح الخبز

ماء العين

يكتب بالأظافر والمحاجر والخناجر

سأقولها

في غرفة التوقيف

في الإسطبل في الحمام

في زرد السلاسل

مليون عصفور

على أغصان قلبي

تصنع اللحن المقاتل

لم يحمل محمود درويش الكلاشينكوف، ولم يطلق الرصاص، ولكنه حمل سلاحا أقوى من الكلاشينكوف، كانت طلقاته أقوى من الرصاص والمدفعية، وقد ظلت تدوي سنين وسنين دون أن تنضب ذخيرته أو تعطب ماشينته، إنه سلاح الكلمة الذي لايعرف التوقف ولا النفاد.

لعب درويش دورا يتفوق فيه كثيرا على الأدوار التي لعبها الدبلوماسيون في تعريف الشعوب في كل أرجاء العالم بجوهر وكنه القضية الفسلطينية، ليس فقط في تصوير معاناة الشعب الفلسطيني، بل وفي تصوير الصلف الممنهج للغاصب الإسرائيلي، وفي جميع دواوينه الشعرية التي تتجاوز الخمسة عشر، تتسرب القضية الفلسطينية تصريحا تارة وتلميحا تارة أخرى، فها هو يتناول حياة المقاوم الفسلطيني الرافض للاغتصاب والاستيطان والاحتلال، بل وحياة كل فلسطيني حتى إن لم يكن ذا ارتباط بالسياسة:

وضعوا على فمه السلاسل

ربطوا يديه بصخرة الموتى

وقالوا أنت قاتل

طردوه من كل المرافئ

أخذوا حبيبته الصغيرة

ثم قالوا أنت لاجئ

أخذوا طعامه والملابس والبيارق

ورموه في زنزانة الموتى

وقالوا أنت سارق

يا دامي العينين والكفين

إن الليل زائل

لاغرفة التوقيف باقية

ولا زرد السلاسل

نيرون مات ولم تمت روما

بعينيها تقاتل

وحبوب سنبلة تجف

ستملأ الوادي سنابل.

لقد كان محمود درويش مؤمنا بعدالة قضيته التي هي قضية شعبه، ومن ثم آمن إيمانا مطلقا بانتصار هذه القضية مهما استضعفت أو استقوى عليها الغاصبون، كما آمن بزوال الباطل مهما استأسد واستطار.

ولئن كان نيرون عصرنا مازال حيا يشعل النيران ويقتل الأبرياء، فإن روما العصر ما تزال تقاتل وستقاتل حتى تعتدل الموازين ويعود الحق لأصحابه، لأن الخطأ التاريخي لابد من إصلاحه بتصحيح التاريخ، وهذا ما كان يؤمن به درويش.

يمثل شعر درويش مدرسة خاصة متميزة في الشعر العربي الحديث والمعاصر، اختلف في طريقة تناول الهموم وطرحها وابتكار الصيغ اللغوية واستحداث صور بلاغية لم يسبقه إليها أحد، وإن اتبعه شعراء من الحداثيين فما ذلك إلا سيرا على خط درويش. لنستمع إليه وهو يتناول الموت:

صدقت أني مت يوم السبت

قلت: علي أن أوصي بشيء ما

فلم أعثر على شيء

وقلت: علي أن أدعو صديقا ما

لأخبرة بأني مت

لكن لم أجد أحدا

وقلت: علي أن أمضي إلى قبري

لأملأه فلم أجد الطريق

وظل قبري خاليا مني

لقد استطاع الشاعر العظيم أن ينقل الحداثة الشعرية من مادة تحتكرها النخبة الثقافية إلى متاع يتعاطاه جميع الناس أينما حلوا ومهما كانت تخصصاتهم أو مستوياتهم الثقافية والأكاديمية، ويكفي أن نتذكر أن الفعاليات الشعرية التي يحضرها يشارك فيها الآلاف من المتابعين ممن قد لايكونون من الشعراء أو النقاد، وممن قد لايحملون الشهادات الجامعية، ولكنهم يجدون متعة لا نظير لها وهم يستمعون إلى درويش وهو ينحت في اللغة أدوات وصورا شعرية لم يأت بها أحد قبله، تتدرج بين الصورة الدرامية والسريالية الهادفة (إن جاز التعبير) والتصوير الواقعي لمجريات الحياة وتدافعها ومجرياتها.

وكان درويش قد قال ذات مرة: «عندما أكتب أعطي لنفسي حق التعبير الذاتي بشكل مطلق لا رقابة عليه من أي اعتبار غير اعتبارات الكتابة المحضة، ولا أفكر في القارئ إلا عندما أريد أن أنشر القصيدة، أي عندما تكتمل القصيدة وأرضى عن هندستها وبنائها وإيقاعها، وأشعر أنها تحمل مشتركا ما بين كاتبها ومتلقيها».

ولربما كان ذلك هو السبب الذي جعله يشكو من النقاد ومتطلباتهم وآرائهم فيما يقوله، إذا يقول في إحدى قصائده:

يغتالني النقاد أحيانا

يريدون القصيدة ذاتها

والاستعارة ذاتها..

فإذا مشيت على طريق جانبي شاردا

قالوا: لقد خان الطريق

وإن عثرت على بلاغة عشبة

قالوا تخلى عن عناد السنديان

وإن رأيت الورد أصفر في الربيع

تسـاءلوا: أين الدم الوطني في أوراقه؟.

لقد غادر الشاعر العظيم عالمنا المليء بالآلام والمتاعب وارتحل إلى عالم الخلود، بيد إنه سيظل باقيا بيننا كما بقي أبو الطيب وطاغور ولوركا وبابلو نيرودا، وستظل قصائده مجلجلة تنشد انتصار الحق وعلو شأنه واندحار الباطل والظلم وانكسار الهامات التي تحرص على نشرهما والإبقاء عليهما يعكران صفو الحياة ويعيقان سريانها في مجراها الإنساني المستهدف إعلاء مكانة الإنسان وصيانة آدميته واحترام حقه وحريته.

لك المجد أيها الشاعر العظيم، وسلام عليك وأنت تتسامى شموخا في الأعالي وتتغلغل عميقا في قلوب الملايين المولعين بشعرك العظيم.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى