أعلى الشعراء شنقا.. وأدناهم إلى عشب يميل

> «الايام» د. هشام محسن السقاف:

> عندما تضيق الخارطة بفلسطين- أحيانا- تمتد أفقا لايشبهه إلا أفق غير محدود من نبضات القلب إلى ما وراء (جداريات الموت)في قصائد درويش الراحل المقيم فينا إلى الأبد.. تمتد فلسطين بدرويش نثارا وبذارا من الحكي الجميل، من مفردات تنام لتصحو ألقا آخر من المحكي اليومي والاعتيادي الذي يضربه درويش ببعضه فيغدو نجوم هذه الأرض، بوصلة الفدائي والمسافر في المرافئ الباردة، نشيد إنشاد المقاومين والكادحين والمعذبين والعابرين مع خيوط الفجر إلى صباحات غزة وأريحا والخليل.

إن عنَّ للموت أن يمارس حرفنة الموت باستراق (مبنى) درويش الجميل فـ(المعنى) عصي على الاستراق، وقد تضمخ عبير الأرض بمفردات ترفرف كالسنونو في أفق الإنسان الواسع، تبقى لتبقى جداول تلثم (طبريا) كل مساء طويل، شمعات رواغها مفتاح للعهد الجديد بعيدا عن أساطير الأحبار، وتمتمات وقرع أجراس الآحاد والأعياد في بيت (لحم)، مسرى الأنبياء ومعراج وبراق في قدس الأقداس، اللوز الأبيض والزيتون ورائحة الخبز في تنور كل أم في الجليل والخليل، حبل غسيل وفتاة تنظف سحابة ليل عابر في المنافي والشتات الفلسطيني.. هذاك وكل ما قاله درويش لغة جديدة، وما سيقوله الرحيل الكبير لشاعر كبير قصيدة أخرى.

فلسطين تكبر بمساحة هذه الدنيا بمحاكاة درويش وحكيه الجميل، شعره المبهر الذي يحاكم الذئب على مرأى العالم بينبوع يتفجر أربعة عشر ديوانا تفقهه ألسنة أهل الصين والهند وأوروبا العجوز والغاصب المحتل.. أما هوى درويش وهواه فإنه مسترسل من نبوءات أو قل (حكمويات) المتنبي وتفرده بالغناء على طموح مشروعه القومي الذي لم يكتمل، ليكون ابن (البروة) المولود في عام 1941 حافر الخيل الذي يعقد للمهزومين بين ماء الخليج وماء المحيط شريعة النهوض من جديد من كبوة الصحراء.

يقول محمود درويش عن طفولة مملحة برجولة البحث عن مأوى وخيمة وبندقية في الشتات: «كان جدي يفتخر بكوني أستطيع القراءة وأنا في تلك السن المبكرة، قرابة الست سنوات، ويجعلني أقرأ حكايات جاليفر وأوليفر تويست، وأهداني مجموعة شكسبيريات مبسطة للأولاد، كان كلما ذهب إلى المدينة يحضر لي كتابا هدية». الدوحة العدد العاشر أغسطس 2008 ص 124. وإذا كان الاختراق قد سجله درويش بحدارة واستحقاق بقصيدة (بطاقة هوية): «سجل أنا عربي.. ورقم بطاقتي خمسون ألف..» (الدوحة السابق)، فإن مفتاح الدخول لعصر درويش الشعري المغاير تماما لمسلك القصيدة العربية يمكن أن يكون بذائقة جمالية، تبعث في المفردة اليومية نصاعتها بعيدا عن ابتذال اللغة وتقعرها، وعدم الاتكاء على القضية بصيغ الخطابية والمباشرة والعويل، حيث ساعدته ثقة القارئ على تطوير أدواته الشعرية وجماليات القصيدة، وساعد قارئه على الارتقاء بذائقيته الشعرية «فالعلاقة بين الجمالي والإنساني أكثر انسجاما من الشعر المباشر والشعر السياسي الخطابي»، السابق ص 126.. دون أن نغمط لنزار قباني قصب السبق في إتيان الاعتيادي شعرا، ونقله من مصاف إلى مصاف يصعب بلوغه.. لكن ريادة دوريش تمضي صعودا من قصائد البدايات وملامسته للجرح الفلسطيني بمحدودية الأثر الشعري قبل أن تتفجر عبقريته في القصيدة التي لاتحد مواكبة لعالمية الجرح الفلسطيني في الثمانينات، ثم عودته الناضجة إلى مصافات التأمل والتفلسف والقراءة المتأنية بقصائده المدهشة إلى محاكاة الموت في الجدارية، في نهاية التسعينات تقول جدارية درويش:

لا شيء يوجعني على باب القيامة

لا الزمان ولا العواطف.

لا أحس بخفة الأشياء أو ثقل الهواجس

لم اجد أحدا لأسأل:

أين «ابني» الآن أين مدينة الموتى؟

وأين أنا؟ فلا عدم هنا في اللا هنا..

في اللازمان،

ولا وجود

وكأنني قدمت قبل الآن..

أعرف هذه الرؤيا وأعرف أنني

أمضي إلى ما لستُ أعرف

ربما مازلت حيا في مكانٍ ما

وأعرفُ ما أريدُ..

سأصير يوما فكرة

لا سيف يحملها إلى الأرض اليباب

ولا كتاب..

كأنها مطر على جبل تصدع من تفتحُّ

عشبةٍ

لا القوة انتصرت

ولا العدل الشريدُ

سأصيرُ يوما ما أريدُ

سأصيرُ يوما طائرا، وأسل من عدمي وجودي

كلما احترق الجناحان

اقتربت من الحقيقة

وانبعثت من الرماد

أنا جوار الحالمين، عزفتُ عن جسدي

وعن نفسي لأكمل رحلتي الأولى إلى المعنى

فأحرقني وغاب.

أنا الغياب، أنا السماوي الطريدُ

سأصبر يوما ما أريدُ

سأصبر يوما شاعرا

والماء رهنُ بصيرتي

لغتي مجاز للمجاز

فلا أقول ولا أشير إلى مكان

فالمكان خطيئتي وذريعتي

أنا من هناك «هناي» يقفر

من خطاي إلى مخيلتي

لقد «تعرض درويش لنكسات صحية دقيقة.. فطفا في الأبيض فعلا، حين أصيب بنوبة قلبية عام 1984: أعطوني صدمة كهربائية لكنني قبل ذلك رأيت نفسي أسبح فوق غيوم بيضاء، تذكرت طفولتي كلها استسلمت للموت، وشعرت بالألم فقط عندما عدت إلى الحياة». الدوحة ص 127.

يحق للمتمعنين في التجربة الشعرية لدوريش دراسة الاتساق الرائع بين درويش الإنسان ودرويش القصيدة، الصوت الداخل في خبايا النفس الصاعد نحو زوايا وخبايا إنسانية أوسع، حيث تتشكل القصيدة من قبل أن تولد لدى درويش في دواخله ومسالكه الإنسانية الأعمق غورا وعلاقته بالآخر وبالتعقيد الذي تطفح به شخصيته التي وصفها درويش نفسه أنها خجولة، ووصفها آخرون أنها كـ (الشفرة)، ويكفي أن (طلّة) درويش تكون قصيدة بحد ذاتها، فكل ما فيه قد خلق للشعر وللشعر وحده، وصوت درويش امتاز ببصمة علقت في الذاكرة من اللحظة التي أنشد في عدن عبر تلفازها في الزمن الثمانيني:

ليدين من حجرٍ وزعترٍ

هذا النشيد

لأحمد المنسي بين فراشتين

لتستغرق قصائده كل استشعارات الذوق الشعري في النفس بلحظة المدى الكبير لدرويش (الموجة الشعرية العاتية)، وهو يمدح (الظل العالي)، مثلا أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982. يقول درويش فيما يشبه الملحمة الشعرية التي تفند قولا مغايرا للاعتقاد بعدمية الملاحم الشعرية أو انعدامها عند العرب الصحراويين وفي الحضر أيضا:

بحر لأيلول الجديد

خريفنا يدنو من الأبواب

هيأنا لبيروت القصيدة كلها

بحر لمنتصف النهار

بحر لرايات الحمام

لظلنا لسلاحنا الفردي

ليديك

كم من موجةٍ سرقت يديك من الإشارة وانتظاري

***

واستطاع القلب أن يرمي لنافذة تحيته الأخيرة

واستطاع القلب أن يعوي، وأن يعد البراري بالبكاء الحر

بحر جاهز من أجلنا

دع جسمك الدامي يصفق للخريف المر أجراسا

ستتسع الصحاري عما قليل

حين ينقض الفضاء على خطاك.

يرحل من رتب للأفق الفلسطيني عالميته، سيد شعراء العربية، أعلى الشعراء شنقا وأدناهم إلى عشبٍ يميل.

محمود درويش الكبير والكثير والراحل المقيم.. وداعا!.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى