درويش.. الموت قبل الموت وبعده!

> «الأيام» كمال الدين محمد:

> دشن بصوته العالي النشيد الفلسطيني منذ يفاعته، شابا ملء قلبه زهر النرجس والليمون وقطر الندى، حتى رحلته الأخيرة عن هذا الكون مزهوا بصرير موته العالي.

محمود درويش هو أسطورة الدفاع عن الجرح الفلسطيني.. ذلك الجرح الذي أعلن قراره بالمقاومة، معلنا بنبوئية (نبي - شاعر) عودته إليه.. وإلى الأرض الخالدة التي انتمى:

«آه.. يا جرحى المقابر

وطني ليس حقيبة

وأنا لست مسافر

أنا راحل..

للأرض الحبيبة..»

وكالنوارس عاد محمود العالي في ضوضائه، البسيط في حزنه ونزفه إلى أرضه الحبيبة فلسطين، التي في ثراها الطاهرة كان عاين قبل مماته قبره الفارغ فيها:

«وقلت علي أن أمضي إلى قبري

لأملأه، فلم أجد الطريق

وظل قبري خاليا مني

وقلت: علي واجب أن أؤدي واجبي.. أن أكتب السطر الأخير على الظلال

فسال منها الماء فوق الحرف

قلت: علي أن آتي بفعل ما

هنا، والآن

لكن لم أجد عملا يليق بميت..»

كان الموت قبل.. وكان الموت بعد.. وفي شهادة أدبية رائعة للناقد المصري د.جابر عصفور في مجلة «دبي الثقافية» يدافع عن الشاعر الذي استشعر بيأس ضياع فلسطين المدجج في احتراب الأخوة وفي التآمر الدولي.. فيزكي روح الشاعر المستيقظة من الموت والمحاصرة بالموت، كما هي قضيته محاصرة.. إن فعل الإقامة الجبرية التي أشار إليها واحد من أوائل من كتبوا عن شاعر المقاومة وشعر المقاومة الطالع من إسرائيل آنذاك، وهو الراحل رجاء النقاش، مازال يخضع الإرادة الشعرية الفلسطينية- جبريا- للانتحار، ويمارس عليها الإبادة بالقنابل الصوتية وما فوق القنابل الصوتية.

آنذاك كان رجاء النقاش أبرز «غصن الزيتون» وإرادة البندقية الفسلطينية في قصيدة درويش المقاومة، وكانت قصيدة (ريتا.. والبندقية) تعبر عن الفكر العلماني الذي زها به الشاعر، ورحلة الهروب من حصار المخيم إلى اتساع أفق جديد لوطن ديمقراطي سلمي.. فلسطيني حتى العظم.

إن هناك حلا صارما هو حل البندقية، يهتف الشاعر بأعلى صوته بقلق أغنية عذبة غناها بصوت شجي مارسيل خليفة.

«بين ريتا وعيون بندقية

والذي يعرف ريتا

ينحني..

ويصلي..

لإله في العيون العسلية

...»

إلى أن يقول في مقطع آخر من القصيدة - الأغنية:

«آه.. ريتا

بيننا مليون عصفور وصورة

ومواويل كثيرة

أطلقت نارا عليها بندقية..»

الشاعر الراحل من مخيم إلى مخيم بحثا عن وطن، ومطلق النشيد الوطني الفلسطيني إلى أوسع مداه، غنى للحب الذي اتخذ أبعادا تسمو به إلى مصاف القضية... هو الذي جسد ذلك بقوله في قصيدة:

«عندما يطلع القمر

كالمرايا المحطمة

يكبر الظل بيننا

والأساطير تحتضر

لاتنامي حبيبتي

جرحنا صار أوسمة

صار نارا على قمر..»

ابتدع حبا فتجرع ألما.. وكان به الموت يزهر.. ومن نشيد إلى نشيد.. ومن جرح إلى جرح جديد.. كان محمود درويش الحبر.. البحر.. الوسام.. يرحل من موت إلى موت جديد، في منافي الشرق والغرب البعيدة، وهو وجه وظل القضية التي رفعت غصن الزيتون بيد والبندقية بيد.. وظل شبح الموت يطارده من مكان إلى مكان.. كما طارد غسان كنفاني وناجي العلي وغيرهما من عمالقة الفكر والإبداع الفلسطيني.

وربما لم يجسد شاعر هذا الإحساس العميق بالخطر الداهم.. خطر الموت الذي يفتت روحية وإرادة الإنسان، وزكى روحه الطاهرة الشقية.. كما أحس درويش في سنواته الأخيرة وهو يفلت منه محاولا الفرار إلى موت آخر.. عثر عليه أخيرا في (هيوستن) في مراجعة قلب متأخرة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى