«الأيام» تفتح ملف تدمير المباني والأماكن الأثرية في عدن .. هل تتحول عدن إلى مدينة تبحث عن هوية تاريخية؟

> «الأيام» فتحي بن لزرق:

>
قصر السلطان هل يتحول إلى ذكرى؟
قصر السلطان هل يتحول إلى ذكرى؟
أعترف لكل من سيقرأ تحقيقي هذا أنني صارعت كثيراً كي أنجزه وأنا أكتب وأصور مشاهده، غادرتكم إلى ما قبل سنوات طويلة وتنقلت هنا وهناك وعشت أياماً لم تعيشوها وشاهدت في مخيلتي أحداثاً لم تشاهدوها، وكانت النتيجة دمعة وحزناً استبد بي إلى درجة تفوق الخيال أردت أن أستكشف تاريخ مدينة اسمها عدن، فغادرت إلى ماقبل سنوات من اليوم، عشت هنا وهناك وخرجت بصورة تؤلم القلب وتدمي الوجدان وجدت عدن تستغيث.!! وهي تغرق وآثارها تكاد تُزال وتاريخها يكاد يطمس، هنا في عدن تاريخ مدينة يندثر اليوم، وإذا استمر الحال على ماهو عليه فلن نجد في القريب العاجل ما يستدل به أن هذه المدينة هي عدن، لكن كل شيء يقول إنها ليست هي بعد أن تكون كل آثارها قد اندثرت ولم يتبق منها سوى صور تذكارية في كتب التاريخ تقول: كانت هنا مدينة، نفتح اليوم بقلوب ملؤها الحزن والغضب ملف الآثار والأماكن التاريخية في هذه المدينة التي لايخفى على أحد أنها تتعرض لعملية تدمير منظمة طرفاها عوامل الزمن وتغاضي الحكومة عن مثل هذه الأماكن .. إليكم هذا التحقيق الذي كتبته بحبر قلب لا حبر قلم.

الدمعة الأولى

لم أقرأ مقولة أشد تأثيراً على النفس من مقولة (آثارنا تدل علينا)، وللحقيقة أن هذه المقولة أبلغ تعبير عن وجود الشعوب وبقائها والاستدلال على أشياء كثيرة في مناحي حياتها، فلا يمكن أن يستدل على تاريخ أمة إلا بالشواهد التاريخية التي تحكي فصول أشياء كثيرة ومن دون هذه الأشياء تظل الأمم مجرد ديكورات وأشياء لاقيمة لها، وفي هذا الوطن مازالت عدن تحكي وتنسج فصول قصة تاريخية عظيمة مابين احتلال هنا واحتلال هناك وصمود بطولي، هنا مدافع وقلاع وقصة أناس رفضوا قساوة الطبيعة فنحتوا الجبال وجعلوا منها موارد تمدهم بأسباب البقاء وتفاصيل مدينة لها خصوصية. نقف اليوم أمام هذه الأماكن وهي تندثر وتولي إلى غياهب النسيان، عدن ياسادة مدينة زاخرة بالتاريخ ومن يريد أن يقرأ هذا التاريخ عليه أن يذهب إليها، وأن يتصفح مايريد وهذه عدن اليوم، ولكنها لن تكون كذلك إذا استمر الحال على ماهو عليه.

تاريخ هذه المدينة التي كانت في يوم من الأيام عاصمة لدولة معترف بها، تاريخ هذه المدينة في خطر ولاندري ماذا نقول إزاء سياسة التجاهل المتعمد للتدمير الذي تتعرض له المباني التاريخية في هذه المدينة، شيء مؤسف جداً ومحزن هذا الحال ولا عزاء إلا لهذا الوطن ولأبناء هذه المدينة.

في حضرة السلطان

كثرة الأماكن جعلتني أحتار في زيارة أي منها أولاً، احترت كثيراً وفي خضم حيرتي قادتني خُطاي إلى قصر الشكر السلطاني الذي يعود لآخر سلاطين لحج، وهو السلطان فضل العبدلي، والذي يقع على ساحل صيرة، من يقف أمام القصر يجد أنه لوحة جمالية أثرية بالغة الروعة، تأملت المبنى فلم يسرني الحال، أبواب مؤصدة ونوافذ مشرعة متهالكة وصمت مهيب وغربان تنعق في أرجاء المكان الذي يشع بعبق التاريخ وأصالته ويحكي فصلاً مهماً من تاريخ هذه المدينة.. تخيلت السلطان العبدلي يقف في شرفة القصر وهو يشير بيديه إلى كل من يحييه، تخيلت أشياء كثيرة؛ حراسة عسكرية هنا وهناك ومدافع وسيارات عتيقة وزمناً قديماً لايعود أبداً وحياة صخب وضجيج، أسرة مالكة، لكن هذا التخيل لم يدم طويلاً، فلقد راعني المنظر المأساوي للقصر رغم عبق التاريخ الذي يشع من كل أرجاء المكان إلا أن هذا لم يخف مدى حالة البؤس التي وصل إليها هذا القصر، فالكثير من التشققات تطغى على جدرانه التي تبدو مهترئة وكل شيء فيه يؤكد أن أيادي العبث تمتد هنا وهناك لتزيح تاريخ أمة عن الوجود، وكل ذلك يأتي ويحدث تحت أنظار الجميع و في ظل غياب رسمي لأهل الشأن، ماشاهدته من خارج القصر كان كافياً أن يوضح حقيقة حال هذا القصر الذي لو أنه وجد في بلد غير هذا البلد لصنعوا منه مزاراً تاريخياً وسياحياً يدر الملايين في الشهر الواحد، ولكن وكما يبدو أنه يتوجب على تاريخ آثار هذه المدينة أن يدفع ثمن فاتورة حساب ليس لها صلة به، ففي السابق حول هذا القصر إلى كلية حقوق ومن ثم تحول إلى متحف لم أسمع بوجوده قبل اليوم، وذلك لأنه في الحقيقة مجرد ديكور هزلي لافائدة منه، وكان الأولى بالسلطة المحلية في المحافظة والحكومة ككل أن تهتم بهذا القصر لا أن تقف موقف المتفرج، الشواهد تقول إن هذا القصر لن يصمد طويلاً وغداً إن لم يسارع أحد لانتشاله من الوضع الذي هو عليه سيسقط وسيتحول إلى أرضية يسيل لها لعاب الكثيرين ممن ابتلعوا عدن وأراضيها هنا وهناك، حتى لم يعد هنالك أي حرمة لأي أرض في قواميسهم التي تبيح نهب كل شيء ؛ غادرت المكان وشمس يوم ما تولي ظهرها مودعة وودعت كل شيء في هذا المكان رحم الله الزمن الذي لايعود ورحم الذكريات وتاريخ هذه المدينة، غادرت بينما كان القصر يستنجد بحرقة قبل أن يسقط ويقع ويذهب وسيتحول إلى ركام أحجار ليس إلا!.

صورة توضح جزءا من الأحجار التي ألقي بها في البحر
صورة توضح جزءا من الأحجار التي ألقي بها في البحر
صيرة قصة صمود مدينة

أتذكر وأنا صغير مدرس التاريخ وهو يحكي مطولاً وبافتخار شديد عن قلعة صيرة وصمودها البطولي أمام غزاة كثر على مدار التاريخ هنا وهناك، مرت سنوات طويلة ولم يستطع الكثير من الغزاة أن يخضعوا صيرة ولا المدينة التي تحميها قلعة صيرة وصمدت المدينة وردت محتلين من هنا ومحتلين من هناك، وسقطت لفترة وأخرى بين أيادي الغزاة إلا أنها كانت وماتزال مصدر عنفوان شديد لهذه الأمة لم تسقط رموز هذه القلعة في أي فترة من الفترات وظلت صامدة تتعاقب الأنظمة وتزول وتبقى هذه القلعة تكابد كل شيء .. لكن اليوم القلعة تعيش حالاً أخرى ووضعية أخرى وفصلاً لم تشهده من قبل في تاريخ حياتها، بعد كل هذه السنوات نقف اليوم أمام قلعة تحتضر وتشد رحالها إلى المجهول رحلة إلى الضياع، الذي سيكون من نتائجه ضياع تاريخ شعب وقصة مدينة مقاومة. من يزور قلعة صيرة اليوم سيقف كثيراً أمام مشاهد يعتصر لها الفؤاد وتبكي العين وهذه حقيقة لايمكن لأي شخص أن يزايد عليها. القلعة اليوم إذا استمر حالها على ماهي عليه لن نرى لها وجوداً بعد سنوات من اليوم وسنرى الجبل الذي تنتصب عليه القلعة مجرد كوم من الأحجار، لطالما كتب هنا وهناك عن الحال المأساوية التي وصل إليها حال القلعة، لكن إلى هذه اللحظة لم يلتفت أحد ما إلى ذلك وكأن الأمر لايعنينا، وكأنه كتب على تاريخ هذه المدينة أن تندثر أمام محبيها وأهلها دون أن يستطيعوا تقديم شيء، لسنا بمزايدين، ولكن هذه هي فصول الحقيقة لايمكن السكوت على ما تتعرض له قلعة صيرة من تدمير مخيف، من يزور القلعة ستتعدد الصور أمامه مابين جدران مشققة ومتآكلة وأخرى منهارة انهياراً تاماً، وتخريب متعمد لجدران وأحجار القلعة، وذلك بإلقاء الكثير منها في البحر.

قبل سنوات من اليوم كانت القلعة عامرة بعدد من المدافع الحديدية التي لم يتبق منها اليوم سوى قواعد توضح أماكن وجود هذه المدافع، وهذه المدافع اختفت فألقي ببعضها عرض البحر واختفى البعض الآخر ولا أحد يعلم إلى أين ذهبت ، والمؤلم أن القلعة تحولت إلى مايشبه اللوكندة التي صار الكثير من العابثين يستخدمونها أماكن لمضغ القات والنوم والراحة والتبول، ماتبقى من غرف القلعة تحول إلى أماكن مليئة بالمخلفات البشرية والأحجار وغيرها مصورة بذلك مشهداً عبثياً يندر أن نرى مثله في أماكن متعددة هنا وهناك على طول هذا الوطن..أتساءل بحرقة ألا تستطيع الحكومة أن توفر جندياً لحماية هذه القلعة؟ على الأقل يمكن لهم أن يوقفوا عمليات التدمير الفردية التي يقوم بها وبشكل متعمد الكثير من زوار القلعة، وذلك بقيامهم بإلقاء عدد من أحجارها في عرض البحر وهو ماشاهدته بأم عيني حينما زرت القلعة لكي أصور ما يحدث، المضحك حد البكاء أن هنالك أعمالاً لبناء سلالم مشاة إلى أعلى القلعة بينما القلعة ذاتها تنهار وتسقط، شيء مضحك حد الجنون أن يتم إرساء مناقصة لإقامة سلالم صعود بينما القلعة هي الأولى بالمساعدة وأخاف ما أخافه أن تنتهي الحكومة من بناء سلالم الصعود، فلا تجد القلعة لأنها ستكون قد دمرت بالكامل وهذا العمل بحد ذاته لا أدري هل هو استخفاف بالعقول أم ماذا؟!

بربكم إلى متى سيستمر تجاهل هذا العبث بهذه القلعة؟ اختفت المدافع واليوم نشاهد عمليات عبث مستمرة لكل شيء فيها، وغداً أو بعد غد لن نجد شيئاً منها وهو ما يطرح تساؤلاً مهماً: من المستفيد من عمليات التدمير هذه؟ المؤلم أن عمليات التدمير لم تقتصر على تدمير القلعة ذاتها، بل وصل إلى قضم الكثير من المستنفذين أجزاء من الجبل الذي تقع عليه هذه القلعة مما أنتج صورة مشوهة للجبل والمكان الذي يعتد بأنه من الأماكن الأثرية والذي بحسب الأعراف العالمية يجب الحفاظ عليه كاملاً، لكن لاغرابة مادامت أيادي العبث امتدت إلى القلعة ذاتها، فليس بالمستغرب أن تطال الجبل الذي تقع عليه.

صورة توضح مدى التدمير الهائل التي تتعرض له قلعة صيرة
صورة توضح مدى التدمير الهائل التي تتعرض له قلعة صيرة
من يزور القلعة يخرج بالكثير من التساؤلات التي لاتنتهي أولها لماذا هذا التجاهل الرسمي لحال القلعة حتى هذه اللحظة مع أن مسلسل التدمير يشاهده الكل؟ ويتساءل الكثير من أبناء هذه المدينة ماذا لو كانت القلعة تربض على جبل نقم ترى حينها هل سيختلف الأمر أم إن الأمر فيه شيء من المركزية لذا يجب أن ننقل القلعة إلى صنعاء لكي يتم صيانتها؟! الأمر سيء ويدعو للغضب والسخط في آن واحد، ولايمكن السكوت بعد اليوم على حال قلعة صيرة، وإذا كانت الدولة والحكومة مصرة أن تتغاضى عن الأمر فإنه ومن منطلق أخلاقي إنساني يتوجب على محبي هذه المدينة و تاريخها وكل منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الاجتماعية ذات العلاقة أن تتدخل ويجب أن تتضافر الجهود كي لا نفقد أحد أبرز معالم هذه المدينة، ونقول هذا بعد أن غضت السلطات المحلية والحكومة النظر عن حال هذه القلعة، وصار لزاماً على الجميع من أبناء هذه المدينة ومحبيها والمتخصصين بأمور الأماكن التاريخية وبما يملي عليهم الضمير والأخلاق أن يتحركوا قبل فوات الأوان.. نقول هذا بعد أن فقدنا الأمل في تحرك رسمي تجاه هذا الأمر، فهل يفعلها هؤلاء أم أن القلعة ستكون أثراً بعد عين.. وسيكتب التاريخ في صفحاته أن قلعة صيرة اندثرت في عهد الوحدة اليمنية رغم أنها ظلت صامدة في كل الحقب التاريخية؟!.. لك الله ياصيرة وصبراً.. والله المستعان على ما يصنعون.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى