النيوكا

> «الأيام» عبدالباسط سعيد الغرابي:

> يتردد المسافرون على مكتبي الوكالة بزنجبار ودار السلام خلال فصلي الصيف والخريف لتسجيل أسمائهم وحجز أماكن للسفر إلى مواطنهم على السواحل الحضرمية، لقد تناقلوا الأخبار فيما بينهم أن سفينة (نيوكا) التي تميزت بمقدرة ربانها الفائق في قيادتها إلى مرافئ السلامة بأمان، كما أنها تعتبر من السفن المتطورة التي صنعتها الأيادي الحضرمية في خمسينيات القرن الماضي مزودة بمحركين آليين يستطيعان خوض البحار وشق أمواجها العاتية بسرعة كبيرة، وباستطاعتها أن تتجاوز السفن الأخرى برشاقة ومقدرة عالية.

المغتربون بكل مشاربهم وطوائفهم يعدون العدة لتجهيز أغراضهم لذلك اليوم، مر الشهر الأول وأبو طالب على نار الصبر، وهو يتهيأ لمقابلة عروسه التي تركها منذ ثلاث سنوات مع ابنه الوحيد الذي لم يشاهده منذ ولادته.. صالح ترك أمه وإخوته ليتعلم في المدارس الإنجليزية بدار السلام، والأسرة تنتظر عودته بالشهادة الكبيرة ليلتحق بسوق العمل حتى يحسن من وضع العائلة المالي.. أما محمد ذلك الشاب الطامح للزواج بعد سنين غربة مرت عليه بما تحمله من مرارة وطول سهر وليالي ضنك في دكاكين المعطارة وأحيانا في المطاعم العربية.. ومنهم من جاء يحمل معه آخر أيامه في الاغتراب ليعود إلى مسقط رأسه إلى غير رجعة إلى سواحل أفريقيا على أمل أن يفتتح له مشروعاً تجارياً في مدينة المكلا يعوض به سنين عمره في الاغتراب.. مرت الأيام والأشهر المتبقية من فصل الخريف قليلة وسالم إلى حد الآن لم يتحصل على الرخصة أو الإجازة من رب العمل، أو كما يسميه أبو الطيب ليس تيمنا بأبي الطيب الشاعر ولا لطيبة الرجل، ولكن الأمر يعرفه سالم أكثر من غيره، الأيام تجري ولكنها ثقيلة.. ثقيلة على عبدالله الذي لم يتجاوز ربيعه الثامن عشر وقد تحدد موعد زواجه في منتصف ديسمبر من عام 1957، دخلت نجوم الديماني(2) الأيام تزحف كالسلحفاء، الوكالة أرسلت مندوبيها إلى المسافرين وتحدد موعد السفر في العشرين من سبتمبر، تقاطر المسافرون على ميناء زنجبار المودعون على الشاطئ أضعاف، أضعاف المسافرين والمقريشن(3) يسجل بدقة عدد المنافيس(4) وقد تجاوز العدد سبعين راكبا من غير طاقم السفينة، الكل يتسابق لتسجيل اسمه.. أحمد يودع صديقه العماني أبو خليفة بالقبلات الساخنة ومحمد وصل على عربة خيل يحمل معه أمتعته وأغراضه الثقيلة، ورجل آخر يقف في نهاية الطابور مع زوجته وطفليه منتظر دوره عند المقريشن، وأصوات الحمالة تملأ المكان ضجيجاً تارة بالغناء غير المفهوم وتارة بالمشاجرة فيما بينهم وتارة أخرى بالمساومة مع السادة الركاب، انتهت إجراءات السفر والمال في خنون(5) السفينة الخشبية مرصوص بطريقة فنية ومربوط ربط بحارة لا يمكن أن تؤثر فيه ضربات البحر بسهولة، وعلى أطراف الشحن يوجد العديد من الدراجات الهوائية الجديدة والمستعملة أرسلها أبو الطيب لأحد التجار في مدينة الشحر، وأبو خالد قد حزم أمتعته وربط كل ما يحمله من مناحيز وبعض العبوات من السمن البنادري(6) وسكر البنجر(7) ومايقارب ثلاثين ثمرة كزاب(8)، وفجأة يطلب من الحمالي كرومه تنزيل كل أغراضه من النيوكا، وأبو عوض يحاول بإلحاح إقناعه بالسفر لعله يتراجع عن قراره، ولكن دون جدوى، رد عليه بقليل من العصبية لقد أخرت إلى الموسم القادم إن شاء الله. الساعة تقترب من السادسة صباحا، الركاب على متن السفينة والأحباب المودعون على الشاطئ والكل يقول مع السلامة في ذمة الله، أبوالطيب عيناه تفيضان بالدمع، قال أحد الخبثاء: مش معقول أبو الطيب يبكي، والكل على أعصابه. أعطى الناخوذة أوامره للبحارة برفع البرونصيات(9)، وبدأت النيوكا تنطلق في الأغماد رويداً وريداً والمودعون يتابعون المشهد الرومانسي والسفينة تبتعد شيئاً فشيئاً عن الشاطئ حتى بدت كالنقطة على صفحات البحر حتى اختفت تماماً.

بدأت الرحلة ومعاناة السفر الطويل، الشيخ الذي يؤمهم في الصلاة يحفظهم دعاء السفر بين الحين والآخر وأحيانا يصبرهم بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم بأن «أمر المؤمن كله خير.. إلخ»، والأطفال أصواتهم بين حين وآخر تملأ السفينة صراخاً.. ابن الربان يتشاجر مع أحد أبناء الركاب بينما شقيقه الأكبر يقف على مقربة من حافة السفينة، وصغير درك يسرع إليه خائفا عليه من السقوط في أعماق المحيط ومجموعة من العبرية يتبادلون لعب الكوتشينا (الزنجباري والكان كان والباصرة والسكينة والبيع وشراء)، والبعض الآخر يلعب الدمنة والدامة.. والسفينة الخشبية تخوض عباب اليم كحيتان البحر الضخمة تصارع الأمواج التي تتقاطر بطابورها الطويل الذي لا ينتهي، الليالي والأيام تنقضي، ونسوا أو تناسوا البحر وأهواله، وانسجم الركاب فيما بينهم وذابت الفوارق الطبقية فيما بينهم يقضون الليل بين السهر والسمر على صوت مغن دان جيبوتي أبو عمرو على كلمات ابن السبيتي والطلي وسيد علوي، أبوعلي البحار المثابر العارف بالله يوقظهم للصلاة بصوته الشجي بينما أبو سعيد ومعلم السفينة نادرا تشاهدهما عند الركاب، إما في عملهما أو على القارية(10) لممارسة هوايتهم باصطياد أسماك التونة والديرك من المحيط.

الأيام تمر بلياليها والسفينة تخوض المحيط. (النيوكا) تقترب من أرخبيل سقطرى، الأحلام تتجدد وتجد طريقها في مخيلة أبو محمد ليلتقي بأسرته وأصدقائه ويحدثهم عن مغامرته ورحلته، ومحمد يتخيل يوم الزفة وهو يحمل على عاتقه أبو فتيلة والعابدي والبدلة المتميزة ومن حوله أولاد عمومته وزغاريد النساء تدوي في أذنيه وكأن المحرويات عن يمينه وبعضن عن شماله، أما هاشم الشاب الطامح إلى فتاة من عائلة تليق بأسرته والخاطبة تستعرض عليه بنات الأكابر. الكل عائش في أحلامه والثعبان يلتهم الأمواج مثل التنين الأسطوري.. عبد الكوري يشاهدها الربان بمنظاره بوضوح من على بعد أميال وفي ظلال الأمل الذي يعيش فيه ركاب السفينة صغير الدرك(11) يصيح بأعلى صوته: لقد بحرنا السفينة تغوص في قاع البحر، الناخوذة والسكوني(12) والصرنج(13)والبحارة يتفاجأون بتغير أمواج البحر، والأمواج ترميهم برشات الماء الحادة كأنها المجانيق النارية، وصوت البحر ينذر بحدوث كارثة أيقظت من على متن السفينة، و(النيوكا) كأنها ريشة في مهب الريح تتقاذفها الأمواج من مكان إلى آخر والجميع فقد السيطرة على مجرى (النيوكا)، الماء يتسرب من قاع السفينة بغزارة شديدة، البر قريب من الحادث ولكن الوصول إليه أصعب من الوصول إلى عنان السماء، تجهز البحارة أهل الخبرة بهذه الحالات بتجهيز البراميل وربط بعضها ببعض للخروج عليها، وخصوصا الركاب الذين لا يجيدون السباحة تقاذف الذي في السفينة بأجسادهم الواحد بعد الآخر وبالمجاميع كأنهم قرروا الانتحار الجماعي تلقاهم الموج كالوحش الكاسر الذي ينتظر فريسته تقاذفتهم الأمواج منهم من ارتطم راسه بالجبل حتى تطاير دماغه كالنافورة، والآخر التهمه حوت القرش، واختلط لون البحر بدم الضحايا.. أما أبو علي فقذفه الموج على ساحل الجزيرة المشؤومة(14) عارياً كيوم ولدته أمه.. ومحمد وصل بسلام إلى شاطئ الجزيرة إلا أنه ملزم بابن عمه فعاد إلى الموت مرة أخرى.

أما أبو محفوظ وزميله أبو عوض فقذفتهما الأمواج أعلى الصخرة القريبة من الحادث المناحيز(15)، وثمار جوز الهند رمتها الأمواج على شاطئ الجزيرة وعبوات سكر البنجر لم تتمكن من حفظ ما في جوفها من السكر فذابت جميعها في ماء البحر دون أن يكون لها تأثير، والدراجات المملوكة لأبي الطيب لم تنفعها ربط البحارة الأشداء تناقلتها الأمواج ككرة الطائرة وسط هذا الملحمة الدرامية، تخرج امرأة مع أولادها الصغار إلى الساحل وهي تحمد الله على السلامة كأن أيادي خفية حملتها مع أطفالها إلى الشاطئ.

بعد ساعة هدأ البحر وانتهى العرض الدرامي بنياح الطيور المفجوعة ووصول الناجيين إلى ميناء القرن والحامي ومنطقة المقد حاملين معهم الأخبار الحزينة مدينة الديس الشرقية طواها الحزن ولف حولها وشاح السواد، وأصوات النائحات في كل شارع، وغاب صوت الفرح وتبددت السعادة من القلوب، وعاشت أيام وليالي بين طيات السواد.

1 النيوكا: اسم لسفينة شراعية يمتلكها الناخوذة محمد سالم المقدي، وهي كلمة بلغة السواحل تعني الثعبان أو الحنش، 2- الديماني : موسم خروج السفن من السواحل الأفريقية إلى سواحل حضرموت، وينامن آخر نجوم فصل الخريف 3- المقريشن : كلمة إنجليزية تعني ضابط الهجرة 4- المنافيس: جمع نفس أي عدد المسافرين على متن السفينة 5- جمع خن والمقصود به المكان المخصص لشحن الضائع في السفينة 6- من أجود أنواع الدهون التي تصنع من حليب المواشي الأفريقية في كينيا وتنزانيا 7- ويسمى أيضا بالسكر الأحمر ويستخرج من نبات البنجر 8- ثمار نخيل جوز الهند 9- جمع بروصي وهي آلة تصنع من الحديد تشبه الباورة ترمى في البحر عندما ترسو السفينة في أحد المراسي أو الموانئ وتسمى أيضا بالمرسى 10- القارية هيكل السفينة الخارجي أو جنبا السفينة 11- صغير الدرك أصغر البحارة سنا 12- السكوني : قابض الدفة 13- الصرنج: مساعد الناخوذة أو الرجل الثاني في طاقم السفينة 14- جزيرة عبدالكوري إحدى الجزر اليمنية التي تقع ضمن أرخبيل سقطرى 15- المنحاز آلة خشبية مخروطية الشكل مدورة لها فتحة واسعة تستخدم في طحن البهارات وخصوصا البن يدق بواسطة عصا طويلة وسميكة تسمى القصارة.

رئيس تحرير مجلة (خُلفه) الصادرة عن جمعية التراث والآثار م/الديس الشرقية

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى