محمد صالح حمدون مع هذا الرائع في ذكرى وفاته الخامسة

> «الأيام» د.هشام محسن السقاف:

> محمد صالح حمدون: صوت الكروان الذي تراجعت أصداء تغريده من مكان قريب؛ (الوهط) التي لايفصلها مرتع طويل من السفر عن (الحوطة) حاضرة العبادل التي تكتظ حتى النخاع بأفعال الدهشة الإبداعية، شعرا وغناءً اكتظاظ حاضرة العباسيين (بغداد) في زمانها الأول، مع التسليم بالفوارق.. كما لاتمتد سكة الوهطي المغادر إلى بندر (عدن) إلا مسافة تفصل النية عند عاقد العزم عن التبكير في الأغباش مع اغتداء الطير من وكناتها، ليتنشق نسيمات بحرها في شهيقه وزفيره على تتمة مع ائتلاف خيوط شمسها الأولى.

لكنني أبحث عن اسم آخر غير (محمد صالح حمدون) نجما ذريا يلمع في سماء الغناء فوق البندر وعلى روضة العبادل بحيثيات السبق والنشوء والاكتمال من الوهط، فلا أجد أحدا سابقه قط، مع الإقرار أن هذه الربوع أليقة بفعل الدين والثقافة وبامتياز، حتى إذا ما كان الأمر متعلقا بالغناء، فإن الخروج عن قواعد المألوف وهطيا أمر صعب لايكون إلا للحمدون الصغير، الذي أدهش أصحاب العمائم البيضاء فصمتوا إعجابا، وتمايلت رؤوس العبادل العشاق حتى ليكاد الأمير منهم أن يرمي عمامته العبدلية من رأسه طربا لولا المكانة.. بينما تفتح عدن لمزايا الصوت الكرواني أحضانها الدافئة من مسرح البادري وحتى صفحات جرائدها، وإلى إطلاق اسمه على موديلات جديدة من الملابس والعطور، في وقت - وهذا المدهش - لم يكن وفاض الغناء في عدن خاليا، حاشى لله أن نقول، ولكنه التدافع الفني الحسن، بحيث يجد كل ذي بال مبتغاه بقدر جده واجتهاده.

وألمح في ثنايا التقديم لديوان (ضناني الشوق) للشاعر الرائع مهدي علي حمدون، الذي خص به الحمدون وديوانه الأستاذ الكبير الأديب عمر الجاوي بعضا من ذلك التقرير لصعوبة البيئة الوهطية العصية على قبول شعر العاطفة والوجدان بيسر، فما بالنا والأمر يتعلق بالغناء.. بيد أن الأمر - حقيقة - لم يكن ليؤخذ بالمطلق، فالوهطي بالغريزة شاعر تقوده الحكمة إلى التمنطق بسلاح الكلمة المنطوقة في أفراحه وأتراحه، في حالات الجفاف والخصب، يقف على رؤوس الأشهاد أولياء الله الصالحين، ممعنين النظر في حكمويات ولي الله الصالح السيد عبدالله بن علي السقاف ونزوعه التصوفي الإيماني العميق، وإلى آخر (رعوي) في الأرض يخالط الطين بالبذر وبالشعر أيضا.. ونلحظ أن عمق التوحد بالبيئة يأخذ بعده في زخم التعبير بالشعر على صوت (الركلة) أو (الدان) والخروج بمساجلات وقصائد يتذكرها الكثير من أبناء الوهط حتى اليوم في الأفراح والأعراس والموالد (زيارات أولياء الله الصالحين)،ويكفي أن يكون لآل (المحلتي) الراضعين الشعر من ثُدي (الحليلة) - وهي جنية الشعر كالتي تأتي الشعراء من وادي عبقر بالشام - المكانة الأسمى، حيث يقول القائل منهم الشعر قبل أن تفطمه أمه.. وتأخذ المحلتيات الشاعرات نصيبهن، بل يكاد يكون لهن القدح المعلى في مجتمع النسوة الوهطي، وإلى جانب المحلتي الأب (عبيد) يأتي الشاعر الفحل علي عبيد محلتي وأخوه مهدي من دون أن تنقطع السبحة بتواليات الأبناء والحفدة الشعراء: الشهيد محمد مهدي محلتي وأخوانه علي، وجمال، ورضوان، من دون أن يكف نواح (الحليلة) عن البكاء في ماتبقى من الديار القديمة لآل المحلتي على الفحول الكبار ممن غادروا الدنيا.

عندما ترنم محمد صالح حمدون بين أقرانه في مزارع وحقول الشقعة في رحلتهم المدرسية بأغنية لفريد الأطرش لعلها «أنا كنت فاكرك ملاك»، وبمصادفة وجود الوجيه السيد التربوي والأديب الألمعي عبدالله علي الجفري الذي هزته ترنيمات ابن الحمدون، فقاده إلى الأستاذ الكبير الفنان عبدالله هادي سبيت الذي كان موجودا في المكان ذاته، وكأن للصدفة هنا حكمها للفصل في ارتقاء الحمدون الصغير بإمكانات صوته البديع، سماوات مفتوحة في أفق الغناء اللحجي الذي بدأ موجته الثانية بعد القمندان العملاق بابتكار الإبداع الجديد لرواد الموجة: عبدالله هادي سبيت، فضل محمد اللحجي، والأمراء العبادل المبدعين: محسن أحمد مهدي، صالح مهدي، وعبده عبدالكريم وغيرهم.

ولأن موجة الغناء الجديدة قد تزامنت في ظروف اجتماعية وسياسية واقتصادية متماثلة أو تكاد في لحج وعدن فإن بزوغ نجم الحمدون اليافع تجلت في مسارح الحوطة ودارسعد وعدن، واختلط العاطفي الوجداني لسبيت الكبير بوطنياته الثورية والقومية التي تجاوزت حدود القطر اليمني صيتا داعما بالفن والمال لتلامس أفق العروبة الواسع في مصر والجزائر، فكانت الأغاني والأناشيد الخالدة (اشرقي ياشمس من أرض العروبة، ياشاكي السلاح)، ويصبح ابن الوهط الصغير حديث الصحافة العدنية ومحط تقريض المعجبين بتميز صوته الرخيم في أغنيات تكامل اللحن والغناء فيها بكلمات لسبيت ترقص الحجر: ياباهي الجبين، والله مافرقته، لما متى يبعد، يابوي يابوي، ياشاكي السلاح... إلخ، ومنذ أن غنى الحمدون (سألت العين) التي نعرف خلفية صياغتها شعرا وبتلحين سببت السهل الممتنع لها، وحتى العام 1959م شكل الاثنان (سبيت وحمدون) ثنائيا رائعا سما باللحن والصوت والكلمات في فضاء الأغنية اللحجية كأجمل مايكون الطرب الأصيل.

أمضى محمد صالح حمدون المرحلة التالية من عمره مع نهاية العقد الخمسيني في مصر والكويت، حيث درس المرحلة الثانوية في مدرسة الشيوخ بالكويت -60 1963م قبل أن يعود إلى الساحة الفنية - الغنائية على وجه التحديد - بائتلاف فني رائع مع العبقري الفنان فضل محمد اللحجي، وصالح نصيب، ومهدي علي حمدون، والأمير محسن أحمد مهدي، وفيها من الغناء الجميل مايضاهي مرحلة السبيت - حمدون، التي غطت عند بعض المتتبعين لتاريخ الأغنية اللحجية على ماتلاها، ومن هذه الأغاني (أخاف منك عليك) للشاعر المبدع صالح نصيب، وألحان فضل محمد اللحجي، ولم يتسن تسجيلها في إذاعة عدن لخلاف بين فضل ولجنة الإجازة الفنية.. ومع أنها قد لحنت للحمدون بالتخصيص فإننا قد سمعناها بعد ذلك بأصوات غنائية لحجية رائعة، وكذلك أغان مثل (سكون الليل والنجمة) و(يكفي بس وا مبتلي) و(صغير في سنه) و(فاتني قبل الوداع) وغيرها من روائع الشاعر المناضل مهدي علي حمدون.

وعندما تُغيِّب الثورة الفن فإننا لاننسى الدور الوطني للفنان محمد صالح حمدون الذي طاله ما طاله من لفيح المرحلة، وقد حدثني أنه تزامل في السجن مع الشاعر الكبير جدا لطفي جعفر أمان.. وعندما عاد إلى محيطه الفني الذي لايستطيع العيش خارجه فإن مرحلة السبعينيات تشهد إحياءً فنيا في ظروف صعبة، لكنه يتألق كعادته بفضل الإحاطة والزمالة الفنية لمبدعين حقيقيين مثل الشاعر الراحل أحمد سعيد دبا، والشاعر والملحن عبداللطيف صالح أحمد، ونصيب أيضا، ومهدي حمدون، والفنان يحيى محمد فضل، لنكتشف في غمرة أن لمحمد صالح حمدون ألحانا مغناة بصوته، مثل أغنية (مسكين ضيع شبابه) للشاعر سعيد الصماطي، و(تمهل ليش تجري) للشاعر أحمد سعيد دبا وغيرهما.

فترة المنتدى:

كان التفكير حصيفا أن نتداعى لتأسيس منتدى الوهط الثقافي، والرائع أن حمدون الكبير - الآن - تجربة غنائية وتجربة حياتية، والمتخم شهرة وصيتا في دنيا الغناء اليمني يكون بمثابة واسطة العقد الذي تشكل منه المنتدى بجهود المثابرين من الأدباء والأساتذة والشخصيات الاجتماعية والفنانين: محمد أحمد عباد، علي حامد السقاف، مهدي صالح حمدون، خالد زين جعفر، علوي زين جعفر، أحمد محمد عمر باحشوان، علي مهدي عليوه، د.سعيد جيرع، محمد زين جعفر، أحمد حامد السقاف، المرحوم عبدالله رشاد، المرحوم عيدروس زين حسن، عبدالله علي عباد، حسين عبدالهادي، محمد الزجر، ومحمد عبده صلح حداد وآخرين.

لتبدأ موجة فنية أخيرة للفنان الكبير محمد صالح حمدون قبل أن يسلم روحه الطاهرة إلى بارئها يوم 13 أكتوبر 2003م على بعد يومين فقط من الفعالية المكرسة لبدء تدشين تكريم هذا الفنان الإنسان في منتدى الوهط الثقافي.

رحم الله أبا وعد رحمة الأبرار والصديقين.. اللهم آمين.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى