> «الأيام» عبدالقادر باراس:

شبام موطن ناطحات السحاب كما عرفناها دوما، مخلدة بالإبداع والحياة لأعظم الشواهد الحية القائمة والدالة على عبقرية الهندسة المعمارية الطينية، تشعرنا عند زيارتها أنها تنقلنا إلى عالم آخر لعظمة مبانيها وسحرها الأخاذ.

اليوم نقف على ما يحدث لهذه المدينة العظيمة المرتبطة بالطين من خراب يطال كل شيء، المدينة تعيش في خطر، تصارع الزمن لتبقى شامخة، ولكنها مهددة بالزوال، والسبب ظاهرة طبيعية قوبلت بغياب رسمي لأية جهود يمكن لها أن تحافظ على تاريخها.

نتوقف هنا بحسرة في مشهد حزين مع التاريخ والحضارة، من خلال ما شاهدناه عبر مختلف وسائل الإعلام من صور للأضرار التي لحقت ببعض أجزاء من مبانيها نتيجة الأمطار والفيضانات في أواخر شهر أكتوبر 2008، فكانت حينئذ لحظات مفجعة.

هكذا تبدو شبام ذات المباني الصفراء العالية أسيرة في قبضة عوامل الطبيعة المدمرة.. لكنها مازالت صامدة تضرب بجذورها في الأرض، وأياديها تمتد نحو السماء داعية الله أن يمدها بعوامل القوة والبقاء والاستمرار.

إنها تستغيث لإنقاذ تراثها الإنساني العالمي، لأنه يخشى عليها غدا من الانهيار والزوال بالكامل بفعل الكارثة الأليمة التي حلت بها أخيرا، وتباطؤ تدارك الموقف من قبل الجميع، حتى لا تطمر في رمال الذكريات.

إن شبام تستغيث بأبنائها كافة في الداخل والخارج بمختلف شرائحهم، وجميع المنظمات المحلية والعربية والعالمية المختصة في مجال الحفاظ على التراث، وعلى وجه الخصوص منظمة التربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) التابعة للأمم المتحدة، للتحرك والعمل لمساعدتها على البقاء والصمود في مواجهة عوامل الاندثار والفناء، بوصفها جزءا من التراث العالمي، ولتبقى عظيمة وشامخة كما كانت.

تاريخ وحكاية

هذه هي شبام، إنها حكاية مدينة تاريخية عريقة، وقد تعددت الروايات بالنسبة لتاريخ بنائها، فإحدى هذه الروايات تقول إنها أنشئت في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، ورواية ثانية تقول إنها أنشئت في القرن الثاني قبل الميلاد، إلا أن الرواية الثانية هي الأرجح.

وذكر المؤرخ الهمداني في كتابه (الإكليل) أن شبام سميت بهذا الاسم نسبة إلى بانيها شبام ابن الحارث ابن حضرموت، وفي وصفه جزيرة العرب يقول الهمداني: «وأما شبام فهي مدينة الجميع الكبيرة، وسكنها حضرموت».

شكّل موقعها في وسط وادي حضرموت منذ القدم بُعداً إستراتيجياً في ازدهار التجارة فيها، حيث كانت العاصمة التجارية لحضرموت، ومحطة تجارة البخور واللبان والمر الذي كان يصدر عبر موانئ حضرموت كـمينائي (قنا والشحر)، وقد زاد من أهمية هذه المدينة أنها مسورة ومرتفعة، الأمر الذي جعل أصحاب السلع لايخافون على سلعهم من النهب، وكانت تتحرك منها قافلتان، إحداهما تتجه نحو ميناء الشحر، والأخرى تتجه عبر الصحراء إلى الشمال.

ومساحة شبام أوسع مما هي عليه اليوم، حيث إنها كانت تمتد غربا حتى مناطق جوجة، وباتجاه الشرق إلى قيوسة الجبل، إلا أنها تعرضت للخراب والدمار بفعل العوامل الطبيعية مثل السيول التي جرفت أجزاء كبيرة من المدينة.. وقيل عنها إنها ارتبطت بمنطقة (ذي أصلة) وهي مدينة قديمة جدا.

ولأهميتها تعرضت شبام للغزو والسيطرة قبل الإسلام، بالإضافة إلى الغزوات والمعارك التي دارت فيها، والتي كان همها قدوم قوات الجيش الأموي لإخماد الثورة الإباضية فيها، وعرفت أيضا بأنها مدينة السلطنات والإمارات لموقعها المهم على منافذ التجارة القديمة.

وقد تعرضت للتدمير على أيدي القبائل المتصارعة على حكمها، ومنها قبيلتا حضرموت وكندة قبل الإسلام، وكانت معقلا للمذهب الإباضي في عهد الدولة الأموية.. وأنشئت فيها إمارات ودويلات وسلطنات منها دويلة آل الدغار، وبني حارثة، وبني سعد، وآل يماني، وخضعت أيضاً لولاية (حاكم ظفار - عمان )، وآل كثير، لتصبح بعد ذلك تحت سيطرة القعيطيين.

تتميز المدينة بارتفاعها، وسورها المحيط بها من كل الاتجاهات، والدخول والخروج منها وإليها عبر منفذ واحد يطلق عليه (السدة) أي البوابة، وتحيط الأراضي الزراعية بالمدينة من ثلاث جهات (الغرب، الشمال، الجنوب).

ويوجد في المدينة ساحات عامة عرفت بـ(السرحات) منها براهم، باذيب، والجامع.. بالإضافة إلى مساجد موغلة في القدم منها مسجد الجامع، الخوقة، معروف الطالعي، بن أحمد، باذيب، باجرش، والحارة.

أسماؤها وألقابها

ولشبام أسماء وألقاب وأوصاف عرفت بها مثل: بيحم العالية، قصبة حضرموت (أي العاصمة، والبلد الذي يرتاده الجميع)، والصفراء.

وقد وصفها المستشرقون بـ (شيكاغو الصحراء) و(منهاتن الشرق)، ويطلق عليها (العالية) لعلو وشموخ أبنيتها، حيث أجمعوا أنها أولى ناطحات السحاب في العالم، لتبدو كقلعة مهيبة على ربوة.

وقد أعلنت شبام (مدينة الـ 500 منزل) مدينة تاريخية في عام 1982م، وعلى إثره تم تدشين الحملة الوطنية لصيانتها، إلى جانب آثار وادي حضرموت في 22 ديسمبر 1984م.

الطرق والمواد المستخدمة في البناء

منازلها الترابية مبنية من (التبن)، حيث يخلط بالماء ثم يترك ليجف ليصبح بعد ذلك (المدر)، ومن خلاله يتم بناء تلك المنازل التي تكون قوية لسنوات طويلة.

تتكون أساسات البيوت الشبامية من ثلاث مواد هي ملح الطعام الصخري، وهو مضاد للأرضة، والفحم النباتي لقدرته على امتصاص الرطوبة، وكذا روث الحيوانات.

ويتم حفر المساحة أو (الأساس) الخاص بالبيت، بحيث توضع في هذه المساحة تلك المواد لتصبح فيما بعد أشبه بالكتلة الخرسانية.

استخدام المواد السالفة الذكر يؤكد العبقرية الحقيقية في كيفية تكييف هذه المواد في حماية البنية التحتية للمنزل، فالفحم النباتي يمتص الرطوبة وملح الطعام يكون ضد الأرضة (النمل الأبيض)، ثم يأتي دور الحجارة الصغيرة، ثم بخشب الدوم (العلب) حتى يتم اكتمال بناء الأساس، ويتم فرش هذه الأساسات بالخشب، ومن ثم البناء، وعادة ما يتكون البناء من ستة إلى ثمانية طوابق.

الطابق الأول يخصص للماشية وحفظ المواد الغذائية، والثاني للاقتصاد المنزلي، والثالث للرجال وزوارهم، والرابع يخصص للنساء وزوارهن، والخامس للأسرة بأجمعها (للسمر والأكل)، اما الطوابق الأخرى فيتركها الآباء لأبنائهم عندما يتزوجون، وهذا التصميم للمنازل يدل على تقوية الروابط الأسرية.

جدران طوابقها السفلية عريضة وفي علياها تقل، مما نتج عنه توازن في عملية البناء، واعتمد تصميمها المعماري على عنصر الامتصاص للحرارة.

ولعل تلاصق بيوتها أوجد تفسيرا لسقوط الظل وانعكاسه على كل بيت ليستفاد من تكوين الظل والظلال في امتصاص أشعة الشمس.

تلاصق بيوتها

لعله من المحاسن أن يكون تلاصق البيوت في شبام قد أوجد تلاصقا في القلوب وسببا للمحبة والتكامل الاجتماعي المتين، حيث إنه يمكن عملياً المرور إلى عدة بيوت من الداخل وليس من السطح.

وهو أمر أشبه بالجسور بين كل الطوابق المماثلة للبيوت المتجاورة والمتلاصقة، فعند الإصابة بالمرض أو غيره يتم المساعدة عن طريق التنقل بهذه الطريقة لتدعيم روابط المحبة والمودة بين سكان كل البيوت المتجاورة.

المراجع بتصرف:

- دراسات في تاريخ حضرموت الحديث والمعاصر - الأستاذ الدكتور صالح علي عمر باصرة.

- من شواهد وشخصيات وحوادث حضرموت.. شبام حضرموت (1 - 2) «الأيام» العدد (3757) 2 يناير 2003 - علوي بن سميط.