هل الزمان والحياة باعدا بين عدن والعدني؟!

> علي هيثم الغريب:

> نعم إنها عدن، فالعالم يعرف ما لهذه المدينة من ماضٍ مشرق، وموقع مميز، ومن الأمواج والتيارات التي أحاطت ببدء نهضتها الحديثة في بداية القرن الماضي، حيث ألقت الحياة الجديدة كل مشكلاتها على العدني نفسه، وعلى جيل الرواد فيها.

فلو أن الحركة الثقافية والفنية والسياسية التي قامت في عدن مع مطلع القرن الماضي هي حركة تخص أبناء عدن لكان الأمر سهلا ويسيرا ولاستوعب العدني ما يحيط به من ثقافات وطوائف وأديان يلغى أمامها الجواب لتطلعه المعهود.

ولو كان موقع عدن موقعا معزولا لوقف العدني عند أساليب عروبته وماضيه وديانته العظيمة الإسلام، ولصاغ منهم أدوات حياته.

كذلك لو استمر حاضر عدن متصلا بماضيها المدني دون انقطاع (فترة حكم الاشتراكي) لكانت مهمة العدني في حماية تراثه ونفسه أكثر يسرا.. ولكن عدن كانت مركز الجنوب وعاصمته التاريخية، وهي مدينة لم تكتفِ بذاتها وإنما تمثل ما حولها من امتداد تاريخي وحضاري، أثر فيها وتأثرت به، وامتزج منبعه المتدفق من المهرة إلى الصبيحة بمصبه المشرف على الحضارات الآتية عبر البحار والمحيطات، وبجوانبها التي كانت مدخلا للحضارة العربية والإسلامية، وخلال هذا الخط المتصل من التاريخ الحضاري قدمت عدن بناءً شامخا متنوعا من الإبداع الثقافي والفني والمدني والسياسي والعلمي، ما كان باستطاعة أحد أن يتجاهله.

هذا اللقاء بين روح عدن وجسدها الجنوب العربي الكبير يمثل حلقة من حلقات الاندماج الاجتماعي المتواصل، ولكن مع الأسف فإن هذا الاندماج لم يتم على أيدي العدنيين، تلك الأيدي المتمكنة التي حنكتها الثقافة والخبرة والتجربة، وكان الثمن الذي دفعناه غاليا، ومن هنا بدأت رحلة العدني الشاقة، فمنهم من ترك منزله المتواضع وأقلامه وكتبه ورحل عن عدن ولم تبق له إلا الذكريات المرة، ومنهم من بقي يعيش على هامش الحياة.. كانت كل هذه المؤثرات تمتزج بابن عدن، وتخرج آهات تجمع بين المعقول واللامعقول.

كانت الملكة إليزابيث الثانية ملكة بريطانيا العظمى وشيخ الاحتجاجات السلمية المهاتما غاندي بين مجموعة كبيرة من زوار عدن الذين سحرتهم بجمال شواطئها الذهبية والزرقاء (بعد حرب 94م تحولت تلك الشواطئ الساحرة إلى أملاك خاصة) وبتراثها الرفيع (هو الآخر هدم أو تحول إلى أملاك خاصة) وبأغانيها ومسارحها ومساجدها العريق.. كانت عدن تتسقبل كل الأشياء الجميلة التي لاتتعارض مع ديننا الإسلامي الحنيف، فكم هي الأشياء التي ضاعت على عدن.. جيل الأربعينات هرب بفنه وعلمه وتراثه المدني، وجيل السبعينات هرب بكوادره وكفاءاته، وأقل القليل من أبناء عدن الذين مايزالون يعيشون بحيل بسيطة على أرض هي الأخرى سلبت منهم، فكيف هان على من كانت عدن عاصمة لهم حال العدنيين؟!. وكيف سمحوا أن يغطي الظلم منازل كانت يوما ما مدارس تعلموا منها ألف باء الحياة والأخلاق ونظافة البدن؟!. هل أصبح ضمير العدني المتألق يعيش بين ناس ما لهم ضمير؟!.

أصبحنا نتباهى بالسنوات التي قضيناها في عدن، وكل واحد منا يقول للآخر أنا أقدم منك في عدن، دون أن نسأل أنفسنا أين أبناء عدن، أبناء أوسان.

صحيح، لقد كانت أرض الجنوب من المهرة إلى الصبيحة هي الستار الحديدي على عدن، ولم تعط ظهرها قط لعدن الأم، أو تسمح لغازٍ بدخولها، لهذا لم يستطع أحد أن يطمس ملامح الجنوب فيها، ولكن العدني غاب وسط هذه التيارات المتدفقة من البر والبحر، وعندما أقول (غاب) لايعني ذلك أنه اختفى أبدا، بل كان جزءا، إما من تلك التيارات الفكرية وإما رافضا لها، لأن العدني ليس من نوع المفكرين أو السياسيين المستسلمين أبدا، فهو لايحتج ضد الظالمين، ولكنه يرفضهم ولايرضخ لهم، فالعدني كون جيلا من الشباب (نساءً ورجالا) لمقاومة الإنجليز إلى أن جاءت مرحلة التناقضات الفكرية التي جعلت العدني ينكر أخاه العدني، وهذه الثنائية عمت كل أنحاء الجنوب. وما كان لأبناء عدن أن يسلموا من هذا التوزيع لأنه بُني منذ البداية على الجمع بين تخلف ريف عدن وحداثتها، وبين الفكر وتياراته، ومازال العدني يتخبط إلى الآن بين الهوية والجمع، بين الانتماء لعدن والانتماءات الأخرى.

حقا، إن العدنيين كانوا دائما من أصحاب البطولات السلمية التي تتفق مُثلها وأخلاقها مع النفوس المستنيرة، ولأن هذه المُثل والأخلاق قد استبعدت أو أزيحت بعيدا، إذا فقد كان من المستحيل إيجاد مُثل أخرى أسمى وأنقى منها، فبدأنا نقترف الأخطاء الأساسية على أثر ذلك، واليوم عكس الأمس، لقد بدأت إنسانية الإنسان تعلو أكثر فأكثر، وبدأت أحابيل الشكوك والقلق وحب الذات تتقطع.

ذلك ما علمنا إياه ابن عدن قبل أكثر من نصف قرن، وما كان يحملها إلينا كل يوم من أشياء جميلة، أشياء تشبه جنة عدن.. ختاما نقول إن أوان عودة عدن لأبنائها أرضا وحكما قد آن.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى