معنى المعنى عند المتنبى:بين السيفيات والكافوريات

> «الأيام» د. هشام محسن السقاف:

> العيد عيدان؛ لا كما ذهب إليه صاحب الحظوة والمحبة شاغل الناس والأزمان أبو الطيب المتنبي عندما قال:(عيد بأية حال عُدت يا عيد/ بما مضى أم لأمر فيه تجديد) بتسماري لياليه مع كتاب (معنى المعنى عند أبي الطيب المتنبي) للكاتبة والأديبة الباحثة د. حفيظة صالح ناصر الشيخ (البان) الأستاذة في كلية التربية صبر محافظة لحج.

وهي بالمستوى ذاته وجه إبداعي مثقف يطل على مشهد الثقافة والأدب، ليس في لحج وعدن وحدهما وإنما في الوطن كله، بألق ثقافي وحضور أدبي امتازت به منذ عودتها الحميدة بعد نيلها درجة الدكتوراه في الموضوع ذاته الذي سامرني ليالي العيد، وبه أصبح العيد عيدين. سنجد - عزيزي القارئ - دون عناء بحث في المتنبي صوتا شعريا لا يموت، صوتا تحمله الغمام والرياح، تجدده صباحات مشرقة، وترفعه إلى مصاف الحلم مساءات تأوب وتأوب، فيه ما فيه من سمو النفس العروبية الصادقة التي تحمل مشروعا قوميا للنهوض والاستقامة في وقت كبا فيه حصان الخلافة العباسية، حيث أصبح الفتى العربي- كما قال المتنبي في زيارته لشعب بوان- (ولكن الفتى العربي فيها/ غريب الوجه واليد واللسان)، بل أضحى الخليفة نفسه ألعوبة بيد القادة الأتراك والفرس والديلم وغيرهم (وفي شعر المتنبى لفتات واعية ودقيقة مستمدة من هذا الواقع، وغالبا ما تتضح السخرية المرة في وصفه لعصره وأهله) العكبري، التبيان، نقلا عن الكتاب: معنى ص 69)

ودهرُ ناسهُ ناس صغارُ
وإن كانت لهُم جُثثُ ضِخَامُ

أرانب غير أنهُمُ ملوكٌ
مفتَّحة عيونهُمُ نيامُ

يقول د. عبدالسلام نور الدين في كتابه المتنبي وسقوط الحضارة العربية:

(وقد ظل حلم المتنبي أن يرى العرب وقد توحدت كلمتهم وقويت شوكتهم أمام تسلط الأعاجم وهجمات الروم، ولكنه حلم عابث، ومن هنا نفهم ولع المتنبي بتصوير المظاهر المتغيرة التي يتخذها الزمان والدهر والدنيا، مما جعله يطارد المفارقات في تقلباتها المتعددة، ثم إن إحساسه البشع بأنه يحاول عبثا تغيير اتجاه الرياح قد دفع إلى نفسه الإحباط واليأس الذي يصل حدا يتخذ فيه ثوب الثورة كآخر محاولة للدفاع عن النفس) معنى المعنى ص70 .

توزع الكتاب إلى خمسة فصول كانت بمثابة سباحة ماهر في دنيا المتنبي، والبحث في الخفايا - الأخرى - واستنباط شيء منها، بعد كل هذه الدراسات والقراءات التي عنيت بالمتنبي وشعره وما زالت تتوالى وتترى حتى اليوم.. وستظل كذلك.

في مقدمة (معنى المعنى..) تقول المؤلفة د. حفيظة : «على الرغم من كثرة الدراسات النقدية والأدبية والتاريخية حول شعر المتنبي وحياته، إلا أنني لم أجد دراسة - فيما وقع بين يدي - تركز على قراءة شعر المتنبي وفق تلك الأنماط البلاغية: الكناية، والاستعارة، والتمثيل، التي جعل الجرجاني مدار الأمر - في معرفة معنى المعنى في النص الأدبي - يعود إليها، بل وقعت بين يدي دراسات تعالج هذه الأنماط البيانية منفصلة عن بعضها البعض؛ كأن يدرس التشبيه عند المتنبي على حدة أو الاستعارة أو الكتابة. وهذا يعني تجزئ نص المتنبي، أي قراءة المعنى في إطارة الجزئي» (المقدمة ص7). ونفهم من سياق ما أوردته الكاتبة أن (معنى المعنى) عندها، كما هو عند عبدالقاهر الجرجاني (471هـ) هو «دراسة نص المتنبي في نظمه الكامل، وفي سياقه العام، أو دراسته على شكل مقطوعات أحيانا، ولكن بالنظر إليها في سياق القصيدة الخارجي والداخلي؛ لأن نص المتنبي الواحد يكون منفتحا على غير لون بلاغي حتى في إطار البيت الواحد، ومن هنا جاءت ضرورة دراسة النص الشعري للمتنبي بكل ما يحتوي عليه من ألوان بلاغية بعيدا عن تصنيف كل لون بلاغي على حدة، كما ركزت على الوظيفة الجمالية التي تؤديها هذه الألوان داخل النص الشعري متساندة ومتكاملة ومتحدة» السابق الصفحة نفسها.

وتعرج الكاتبة المتألقة لتشرح لنا سر حصرها الدراسة في شعر المتنبي المعروف بـ(السيفيات) نسبة إلى ممدوحه الأثير سيف الدولة الحمداني، و(الكافوريات) نسبة إلى كافور (الأخشيدي) حاكم مصر في ذلك الوقت، وإن كانت الكافوريات تأتي من كونها النقيض للسيفيات في الشعور وفي فكرة البطل المثالي.

> الفصل الأول: يقوم على تقصي منابع وروافد المتنبي الثقافية على أساس أن الموارد الثقافية تعكس نفسها في خطابه الشعري، وتساعد على معرفة كوامنه.

> الفصل الثاني: تناولت فيه شخصية النموذج المثال كما رسخت في ذهن الشاعر.

> الفصل الثالث: بينت فيه الكاتبة كيفية اهتزاز صورة المثال أو النموذج في نظر الشاعر، فبحثت - والقول للمؤلفة - عن نموذج بديل يتواصل مع الفكرة الثابتة في ذهنه.

> الفصل الرابع: تناول سقوط المثال، حيث توصلت الكاتبة إلى وهم المثال المفتعل بديلا عن النموذج الحقيقي؛ عبر عن هذه الحالة الشاعر تلميحا أو تصريحا، ثم عودة صورة المثال الحق لتمثل مكانتها المشرقة في وجدان الشاعر وذهنه.

> الفصل الخامس: متابعة «الأنا» عند المتنبي، قبل وصول الشاعر إلى البلاط الحمداني، لمعرفة الظروف الخاصة والعامة التي دفعت الشاعر إلى تكوين رأيه في أنموذجية الحاكم ومثاليته، التي كانت سببا في تعاليه وإحساسه بذاته، ثم أثناء وجوده في بلاط سيف الدولة والعوامل التي أدت إلى تعاليها فيه، وأخيرا متابعة «أنا» المتنبي في بلاط كافور والظروف التي أدت إلى انكسارها.

لم تذهب الكاتبة د. حفيظة إلى صلب موضوع (معنى المعنى) إلا بعد رحلة بحث في المفهوم في الدراسات البلاغية والنقدية في التراث العربي، واستحواذ عبدالقاهر الجرجاني على نصيب أوفر من البحث والتقصي في مقولات (معنى المعنى)، ومن قبله بشر بن المعتمر (210هـ) الذي أتحف الموروث الأدبي بمقولته الرائعة (من أراغ معنى كريما فليلتمس له لفظا كريما، فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف)، ثم أتت الكاتبة إلى تبيان موقف أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (255هـ) من قضية (اللفظ والمعنى)، الذي من أقواله المأثورة في هذه الجانب (اللفظ للمعنى بدن والمعنى للفظ روح)، دون أن تنسى ثنائية اللفظ والمعنى عند ابن قتيبة (276هـ) وزميله أبي العباس المبرّد (285هـ) وتذهب إلى أن المبرّد قد شكل دعامة معقولة لمشروع عبدالقاهر الجرجاني (معنى المعنى)؛ ذلك لأن الجرجاني جعل مدار الأمر فيه- أي في استنتاج معنى المعنى- على الكتابة والمجاز، ويتضح ذلك في الأمثلة التي يسوقها للتدليل على نظريته: كثير رماد القدر، نؤوم الضحى، جبان الكلب، مهزول الفصيل. وكلها جاءت للتغطية على المعاني التي تستتر خلف ألفاظها، وتحتاج إلى بحث وتنقيب توصلا إلى المعنى الخفي، وهذا ما فطن إليه ابن طباطبا (322هـ) الذي تشبه مقولاته في هذا الأمر ما عرف في الدراسات البلاغية والنقدية الحديثة من مصطلحات كـ(الانحراف: Deviation)، و(الانزياح: Ecartement) والانحسار وعدم الملاءمة، وجميعها عبر عنها ابن طباطبا بألفاظ مألوفة (تشبيه لا تتلقاه بالقبول، أو حكاية تستغربها). ثم تأتي الكاتبة بآراء قدامة بن جعفر (337هـ) التوفيقية بين رأيي الجرجاني وابن طباطبا، فهو لا يفضل أحدهما على الآخر، وراح يؤلف بينهما بقوله:«أن يكون اللفظ القليل مشتملاً على معان كثيرة» كما في قول عمر ابن أبي ربيعة:

بعيدة مهوى القُرطِ أمَّا لنوفلٌ
أبوها وأمَّا عبد شمسٍ وهاشمِ

لأن العرب كما يقول أحمد بن فارس (395): تشير إلى المعنى إشارة، وتومئ إليه إيماءً دون التصريح. فهو قد جعل لـ (معاني الكلام) عشرة ضروب هي: الخبر والاستخبار، والأمر والنهي، والدعاء والطلب، والعرض والتخصيص، والتمني والعجب (كتاب: الصاحبي في فقه اللغة).

ثم أوردت الكاتبة آراء البلاغيين المتأخرين في هذا الجانب مثل السكاكي (626هـ) وحازم القرطاجني (684هـ) وغيرهما.

المتنبي شاغل الناس بين يدي د. حفيظة

لقد التزمت د. حفيظة في مؤلفها القيم المنهج العلمي الصارم، وعند إسقاطها ذلك المنهج على (المتنبي) فإن المنهج ينتصر لذلك العبقري حامل راية القومية العربية ومشروع النهوض من براثن التمزق الذي حل بالدولة العباسية، والذي امتاز عن سواه بشاعرية تفلق الحجر ومعين ثقافي لا ينضب، وبإرادة فولاذية تستطيع أن تصد مكائد الحاسدين ولا تقبل الضيم من أحد. فمن تقوَّل منتقديه ما ادعوه من غريب لغة تأتي به قصائده مثل:

أحاد أم سُداس في أحاد
لُييلتنا المنوطة بالتناد

حيث تأتي الكاتبة بما يدحض هذا التقول من خابية المتنبي البلاغية والمعرفية التي تفيض شعراً عربياً أصيلاً، فهو قد:«عوَّل كثيرا على قوة حافظته في خزن الموروث، ثم بعثه واستجلاب المعنى والصور منه مما عده بعض النقاد أخذاً و سرقة». ومثل ذلك ما عده بعض النقاد أخذاً من الغير مثل قول المتنبي:

دُعِيت بتقريظَيْك في كل مجلس
وظن الذي يدعو ثنائي عليك اسمي

أو: لما قفلت من السواحل نحونا
قفلت إليها وحشةٌ من عندنا

بعودتيهما إلى البحتري بقوله على التوالي:

وما أنا إلا عبدُ نعمتك التي
نسبت إليها دون رهطي ومنصبي

رحل الأمير فترحلت
عنا غضارة هذه النعماء

وتقصد الثعالبي في (يتيمة الدهر) أن يخصص فصلاً لسرقات المتنبي كما يدعى، ومثّل لذلك بقول المتنبي أخذاً من ابن المعتز.

أزورهم وسواد الليل يشفع لي
وأنثني وبياض الصبح يغري بي

والأصل:

لا تلقَ إلا بليل من تواصله
فالشمس غامة والليل فوادُ

وقول المتنبي في مدح بدر بن عمار:

أحلماً نرى أم زماناً جديداً

أم الخلقُ في شخصِ حيِّ أُعيدا

على أنه في الأصل لأبي نواس:

ليس على الله بمستنكرٍ

أن يجمع العالم في واحدِ

وقول المتنبي:

يا من يقتِّل من أراد بسيفه

أصبحت من قتلاك بالإحسان

على أنه لوالبة بن الحباب:

وقتلتني بالجود بل أحييتني
يا قاتل الأعداء بالصمصام

طرفي تحير فيك فرط مهابة
وتطاول مدحي وحار كلامي

وتقول الكاتبة إن هؤلاء النقاد لم يكتفوا بإحالة شعر المتنبي إلى آخرين، بل راحوا يفتشون فيما أخذه أو استعاره أو تشابه فيه مع فلاسفة اليونان، فالحاتمي في رسالته الثانية يكشف عن المواطن التي تشابه فيها شعر المتنبي مع حكمة فيلسوف اليونان أرسطو طاليس (ص 52)، ولكن ذلك هو الاعتراف الصريح والضمني بتقديم الشاعر وسعة ثقافته كما تقول الكاتبة (ص 53).

ثم تشتهد الكاتبة بمقدرة المتنبي على رد كيد خصومه إلى نحورهم، فعندما عيب عليه إلحاق الضمير بـ «إلا» في قوله:

ليس إلاك يا علي همام
سيفه دون عرضه سلول

قال محتجاً ببيت رواه الفراء عن العرب، واحتذاه أبو الطيب وهو:

فما نبلي إذا ما كنت جارتنا
ألا يجاورنا إلاك ديارُ

وفي نقدهم لقوله (لييلتنا المنوطة بالتناد) وقد صغر الليلة ثم استطالها، فقال: هذا تصغير التعظيم والعرب تفعله كثيراً، قال لبيد.

وكل أناس سوف تدخل بينهم
دويهيَّة تصفرُّ منها الأنامل

ومثل هذه الاستدلالات كثيرة في الكتاب.

وعند وصول الكاتبة إلى (النموذج - المثال) في مضمار بحث المتنبي تقف مطولاً أمام (ميميته) العصماء وهي الأولى في مدحه سيف الدولة الحمداني، وقد ضمنها ما يؤمن به من صفات القائد المثل أو النموذج ومطلعها:

وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمُهْ
بأن تسعدا و الدمع أشفاهُ ساجُمِهْ

وقد كان التعقيد اللفظي في القصيدة مقصوداً من الشاعر للفت الانتباه، وكرس عشقه في القصيدة لفكرة البطل المثال والمنقذ.

يقبّلُ أفواهُ الملوك بساطه
ويكبر عنها كمُّهُ وبراجمُهْ

قياماً لمن يشفي من الداءكيُّهُ
ومن بين أذني كل قرم مواسمه

فبائعُها تحت المرافق هيبةً
وأنفذ مما في الجفون عزائمه

له عسكرا خيل وطير إذا رمى
بها عسكرا لم يبق إلا جماجمه

إلى آخر الصفات التي أغدقها على ممدوحه (المثل). لكن الابتعاد عن المثل النموذج صار وشيكاً بعد اهتزاز الصورة واشتداد نقمة الحاسدين، فكانت القصيدة (واحرَّ قلباه) كالطلقة النافذة:

واحرَّ قلباه ممن قلبه شبمُ
ومن بجسمي وحالي عندهُ سقمُ

ما لي أكتِّمُ حباً قد برى جسدي
وتدَّعي حب سيف الدولة الأممُ

إن كان يجمعنا حبٌ لغرَّته
فليت أنا بقدر الحب نقتسمُ

قد زرته وسيوف الهند مغمدة

وقد نظرت إليه والسيوف دمُ

فكان أحسن خلق الله كلهم

وكان أحسن ما في الأحسن الشيمُ

قد ناب عنك شديد الخوف واصطنعت
لك المهابة ما لا تصنع البهمُ

ولا نستطيع أن نتقصى كل هذا التاريخ المكثف من المعاناة والبحث والمجاهدة عند أبي الطيب، حسبنا الآن أنه قد فرغ من مرحلة المثل النموذج بهذا الاهتزاز المريع الذي رأيناه في خاتمته المحزنة في بلاط الحمداني.

يا أعدل الناسَ إلا في معاملتي

فيك الخصام وأنت الخصم والحكمُ

أعيذها نظرات منك صادقة

أن تحسب الشحمَ فيمن شحمه ورمُ

وما انتفاع أخي الدنيا بناظره

إذا استوت عنده الأنوار والظلمُ

لوحة أخرى - تقول د. حفيظة - تقوم أركانها على التقابل بين الممدوح، الشاعر، والآخر، وفيها يسند الشاعر إلى ممدوحه صفة الإيجاب مشفوعة بصفة السلب (147).

افتعال النموذج البديل

لعل دخوله إلى مصر سنة 345هـ كان الدافع إليه إغاظة سيف الدولة وبطانته، لكي يعرفوا أن له حظوة وأماناً ومستقراً عند عدوهم الأخشيدي، و(الحق أن كافوراً ليس موضع مدح المتنبي لا في خُلقه ولا خَلقه ولا نسبه، ولكن رغبة الشاعر وحلمه بمجد عظيم يطلع من خلاله على سيف الدولة، وكل أعدائه منتصراً شامخاً ومعوضاً كل ما لقيه من متاعب وإحباطات سابقة) ص 151. وبالمقدرة الفذة لفنان عيظم يستطيع أن يعبث بالصورة والكلام ليفرغ على كافور جلداً آخر، نراه يزف إليه المدائح (ص 152):

كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا
وحسب المنايا أن يكن أمانيا

تمنيتها لما تمنيت أن ترى
صديقاً فاعياً أو عدواً مداجيا

وللنفس أخلاق تدل على الفتى
أكان سخاءً ما أتى أم تساخيا

أُقِلّ اشتياقا أيها القلب ربما

رأيتك تصفي الود من ليس جازيا

تقول الكاتبة:«ينشد المتنبي هذه الأبيات أمام كافور، ولا نرى فيها أثراً للممدوح حتى هذه اللحظة.. والقطعة كاملة (من البيت 12-1) توحي بوصول المتنبي إلى ذروة حبه لسيف الدولة رغم اهتزاز صورته في نظره (ص 153) لكن الشاعر يستدرك بقوله:

ولكن بالفسطاط بحراً أَزرتُهُ

حياتي ونصحي والهوى والقوافيا

ويقول:

أبا المسك ذا الوجه الذي كنت تائقاً
إليه وذا الوقت الذي كنت راجيا

أبا كل طيب لا أبا المسك وحده
وكلِّ سحابٍ لا أخصُّ الغواديا

وفي البيت الذي يصفه فيه بعين الزمان:

فجاءت بنا إنسانُ عين زمانه
وخلَّتْ بياضا خلفها ومآقيا

تعريض بسيف الدولة وإشارة إلى عماه «البصيري» لا البصري الذي أفقده القدرة على التمييز والتقدير الصحيح، وهو معنى مكرر في قوله السابق في بلاط الحمداني:

وما انتفاع أخي الدنيا بناظره
إذا استوت عنده الأنوار والظلمُ

وعندما المدائح تكثر في كافور ولا يأتي الوعد ويتحقق، نلمح تغيرا في لهجة الشاعر وبداية ضيقه من موقف كافور المبهم، فيقول معاتباً:

أبا المسك هل في الكأس فضل أناله
فإني أغني منذ حين وتشرب

أو في قوله:

فإن نلت ما أملت منك فربما
شربت بماء يعجز الطير ورده

وعندما تصل الأمور إلى منتهاها نراه يقول:

فراق ومن فارقت غير مذمَّم
وأمُّ ومن يممت خير ميمَّمِ

وما منزل اللذات عندي بمنزل
إذا لم أبجَّل عنده وأكُرَّمِ

وعندما يسقط المثل البديل (كافور) تصريحاً نسمعه في هجائه ولما يزل الشاعر في مصر:

أريك الرضا لو أخفت النفس خافيا
وما أنا عن نفسي لا عنك راضيا

أمَيْنا وإخلافاً وغدراً وخسة
أشخصاً لُحْتَ لي أم مخازيا

تظنُّ ابتساماتي رجاءً وغبطة
وما أنا إلا ضاحك من رجائيا

وتعجبني رجلاك في النعل أنني
رأيتك ذا نعل إذا كنت حافيا

وأنك لا تدري ألونك أسود
من الجهل أم قد صار أبيض صافيا

ولا يتورع عن ذمه أنه من فئة الحجامين قليلة القدر والقيمة الاجتماعية في ذلك الزمان يقول:

من أية الطرق يأتي مثلك الكرم
أين المحاجم يا كافور والجَلَمُ

ويصل المتنبي إلى حال أمة ارتضت مثل كافور أميراً عليها:

أغاية الدِّين أن تحفوا شواربكم
يا أمة ضحكت من جهلها الأممُ؟

وما أشبه الليل بالبارحة، بارحة المتنبي وعصره، وليلتنا التي بتنا فيها وحالنا من حال المتنبي. أما داليته الفريدة التي نظمها قبل يوم من خروجه من مصر سنة 350هـ فإن شهرتها طبقت الآفاق ومطلعها:

عيد بأية حال عدت ياعيد
بما مضى أم لأمر فيه تجديد

فقد جاء العيد (وهو في الوجدان العربي يوم له من الصفاء والائتلاف والالتقاء والمحبة ما يميزه عن غيره من الأيام، وفيه تلفت الشاعر حول نفسه فلم يجد هذه الأجواء.. بل وجد الوحدة المشحونة بالغضب والنقمة على الواقع) ص 210و 211. وعلى الايقاع ذاته يمضي في ذم مضيفه بسخرية وازدراء:

إني نزلت بكذابين ضيفهم
عن القرى وعن الترحال محدودُ

جود الرجال من الأيدي وجودهمُ
من اللسان فلا كانوا ولا الجود

ما يقبض الموت نفساً من نفوسهمُ
إلا وفي يده من نتنها عود

من كل رخو وكاء البطن منفتق
لا في الرجال ولا النسوان معدود

أكلما اغتال عبد السوء سيده
أو خانه فله في مصر تمهيد

صار الخصيُّ إمام الآبقين بها
فالحر مستعبد والعبد معبود

نامت نواظير مصر عن ثعالبها
فقد بشمن وما تفني العناقيد

العبد ليس لحر صالحٍ بأخٍ
لو أنه في ثياب الحر مولود

لا تشتري العبد إلا والعصا معه
إن العبيد لأنجاس مناكيد

إلى آخر القصيدة الرائعة التي أسقط بها المتنبي كل صفات المدح التي أغدقها سلفاً على كافور فلم يبق له شيئا من صفات حميدة ترتفع به مقاماً بين الناس. لقد تساقط تمثال المتنبي البديل تماماً، ولم يبقَ أمامه من طريق سوى الترحال الأبدي بحثا عن مثال جديد يصمد أمام نوائب الدهر، وأنّى له أن يجده إلا في نموذجية سيف الدولة رغم الفراق، فجاءت قصيدتيه:

بم التعلل لا أهل ولا وطن
ولا نديم ولا كأس ولا سكنُ

رغم ما فيها من تعريض بسيف الدولة وصل حافة الهجاء، ولكنه ليس الهجاء المقدع كما تقول الكاتبة، بقدر ماهو شذرات غضب ملتهبة سرعان ما تنطفئ (230). والثانية:

أغالب فيك الشوق والشوق أغلب

وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب

وكان قد قال لاميته الشهيرة بعيد خروجه من حلب وفيها ما فيها من لواعج الشوق إلى الأمير المثال، ومطلعها:

مالنا كلنا جوٍ يارسولُ
أنا أهوى وقلبك المتبول

لكن الخروج من مصر لم يدفعه إلى العودة إلى حلب، بل إلى رحلة أخرى مضنية من ترحال الباحث عن المجد العربي أبي الطيب المتنبي، الذي وإن غاب عنا قبل ألف عام وأكثر فإنه سيظل رائداً للحلم العربي حتى يتحقق هذا الحلم.

وإذا كنا قد جرينا جري اللاهث خلف معنى المعنى في شعر أمير الشعر أبي الطيب دون أن نلم بأقاصيه ودوانيه، فحسبنا أن د. حفيظة صالح قد أعدت لنا مائدة دسمة عامرة بالجميل والرائع والمتفرد من معنى المعنى في شعر المتنبي، فلها الشكر والتقدير والعرفان على جهدها الأدبي والعلمي المتميز.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى