قطرات من حبرٍ ملون

> «الأيام» سعيد الجريري :

> بهذا العنوان كان القاص الرائد الأستاذ أحمد محفوظ عمر يهمي كل أسبوع، وينتظره بشغف قراء صحيفة 14أكتوبر في مطلع ثمانينيات مدينة عدن. ومنهم من كانوا يحتفظون بأعداد الصحيفة حباً في القطرات.

ومنهم من يقتطعون صفحاتها بحرص شديد وأنا منهم. إذ كانت قطراته رذاذاً أدبياً، غيمات، مطراً لذيذاً كأن ذرّاته من بحيريات أسطورية، الجمال زخة من أسرار بهائه.

أحمد محفوظ عمر اسم ثلاثي كأنه اسم واحد مركب، وليس لمجتزئ أن يجتزئه أو يستغني بجزء منه عن جزئيه الآخرين، فلا هو أحمد مثلاً، ولا أحمد عمرولا هو أحمد محفوظ، فلو اكتفي ببعضه لما دل الاكتفاء على الكاتب المبدع. هو إذاً أحمد محفوظ عمر الرائد الجميل صاحب (الإنذار الممزق)، و(الناب الأزرق)، و(الأجراس الصامتة)، و(يا أهل هذا الجبل)، وهو من أولئك المبدعين الذين إذا قُرئوا بقي منهم في الذاكرة الثقافية آثار. وتلك خصيصة لا ينماز بها إلا كاتب تماهى في عوالمه السردية وتماهت فيه.

وبعيداً عن التصنيفات أو التنمطيات تظل قصص أحمد محفوظ عمر علامة مميزة في مسار تطور القصة القصيرة ، فقد كان وعيه بتقنياتها مبكراً (صدرت مجموعته الأولى في عدن عام 1960) وبشرت به صحيفة (النهضة) العدنية في مايو 1955، كاتباً له شأن في عالم السرد.

ولست بواقف هنا على تجربته السردية، لكنني أنثر كلمات من وحي استذكار صفحات مبهجة مندَّاة بقطرات من حبر ملون كان يبهجنا بها ويعلمنا بها كيف نرى، وكيف نحلم، وكيف نكتب نؤاخي الكلمات من مدائن مدهشة يؤلفها من رؤية من سردية وجمالية مقالية.

فلماذا لم يعد يوشّي صباحاتنا بقطراته الملونة الندية؟ ومن يعيد طباعة أعماله القصصية، ويخرج ما لم يضمه كتاب مثل: نقاط الضوء والضوضاء، ملامح الضياع، أبيع الفل يا شاري، أضرب على الدف فمن يرقص. ورواية مبادئ لا تباع، رواية رسائل إلى من لا يهمه الأمر! (الأعمال الكاملة، ج1 مثلا). وهل تدخل قصة ما من قصصه القصيرة في مناهج التربية والتعليم فيتلقاها الناشئة؟ ولِمَ لا يحتفى به في دورة مهرجانية ما، ليس بتكريم دعائي عابر - وما أكثر الدعائي العابر- وإنما بدراسة أعماله السردية بعيداً عن أحكام تردّد كأنما هي منتهى ما يمكن أن يقال في أدبه؟ وهل التفتت إليه جامعة ما موضوعاً لرسالة ماجستير فأنصفته وجلّت تجربته الأدبية؟!. تساؤلات تظل تتناسل في فضاء لا نلمح فيه إلا احتفاء غير بريء بتجارب- إن جاز وصفها بالتجارب - مبالغ في مقاربتها، لكأن بها فضاءات سردية غير مردودة. لعل من سيكتب بعد حين، عن فضاء كهذا، سيذهل لما يضجُّ به الواقع الأدبي والثقافي من مفارقات عجيبة، لكنه ربما يتساءل:.. ولكن لماذا؟

إن للاحتفاء المبالغ فيه صوراً متعددة ليس أدناها العلاقة أو (الحاجة)، وليس الملق (النقدي!!) بأقصاها.

إن لكل مرحلة سماتها سلباً وإيجاباً، وفي زحام يقدّم (النقدي!!) - أقصد المالي طبعاً - على (الأدبي والثقافي) لا بد أن تغيب وجوه تجلُّ الإبداع إجلالاً جمالياً ليطفو على الزحام غثاء متخثر من كلام فاتر.

هل أريد أن أعلل الصمت حول الأستاذ؟ وهل ثمة من يستطيع فك شفرات الصمت المسافرة في كل الجهات؟

مازالت قطرات الأستاذ تغمر ذاكرتي الآن، كاتباً باذخاً ننتظر قراءة سيرته الذاتية. فهل عكف الأستاذ على كتابتها؟ وهل من جهة تتلقفها منه، فتملأ فضاء الكتابة قطرات من حبر ملون ليس ترفاً ولا رومانسية أو هرباً من قيظ الوقع وهجيره، ولكنه سفر في ذاكرة مشبعة بالندى تجربة عصامية ومعرفة ووعياً وشعوراً بجماليات الزمان والمكان والإنسان في دفء العلاقات وصقيعها.

ثمة زوايا لم تضأ.. لكن مما لا يفهم أن نرى.. فنلوذ بصمت بارد كالمقبرة، كالوهم، كالشجر المنطفئ كمن يستمرئ ضوضاء الدراجات النارية، وزمر السيارات العالي عند الإشارات الحمراء!!، وضجيج العابرين مع كل فج في صنعاء، وكأنها قدر أحمق الخطى!. إنما.. ليس لتداعيات الكلام عن صاحب (القطرات) منتهى، وللمقال منتاه ههنا.. فهل ينث الأستاذ قطرات أخرى من حبر يلون أزمنة وأمكنة وأفئدة بموحيات جمالية، تضيء ألق كتابة تستبطن علاقة الحبر بالقطرات، وأسرارها الناضحة كالضحى؟

* عن موقع (حضرموت الثقافية)

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى