حول «ياطالع الشجرة» .. قلت ذات يوم

> «الأيام» عمر جبلي:

> ما كتبه الأستاذ أديب قاسم في صحيفة «الأيام» منذ بضعة أسابيع قد هيج أشجاني إذا صح التعبير للأيام الخوالي من أواخر الستينات أيام كانت مجلة «أخبار المصافي» الأسبوعية تصدر من قبل شركة مصافي الزيت البريطانية المحدودة (بي بي) تحت إشراف كل من المرحوم الأستاذ حامد لقمان والأستاذ عمر بامطرف أطال الله عمره، اللذين أفسحا لنا المجال واسعاً لنشر ما كان يتيسر لنا كتابته على صفحاتها. وهاهو الأستاذ أديب قاسم قد حلى له استجرار الماضي بإعادة نشر تعقيب له على موضوع تناولته منذ عقود فوجدت نفسي تحثني على أن أحذو حذوه فأستجر أنا بدوري بإعادة نشر الموضوع المعقب عليه لأحاكيه في استجرار ذلك الماضي بما حواه من مر الزمن وحلوه.

وما قلته في ذات يوم من ذلك الزمن تمثل في مقالة لخصت فيها مسرحية «ياطالع الشجرة» لتوفيق الحكيم ونشرتها أخبار المصافي في 1 أكتوبر 1968.. إذ قلت فيها:

اكتشفت بهانة أنها حامل من زوجها.. وعندما أعلمته بذلك.. طلب منها أن تسقط جنينها نظراً لحالة الفقر التي كانت تسود حياتهما على الرغم من امتلاك الزوج بقالة صغيرة تدر عليهما ما يسد الرمق. رضخت بهانة لمطلب زوجها وأسقطت الجنين.. وبذلك الرضوخ تأثر رحمها من عملية السقط. وحينما أرادت أن تحمل مرة أخرى بعد أن هبت رياح السعد تقتلع جذور الفقر.. أدركت بهانة مقدار حرمانها من الأمومة وجسامة تضحيتها بالجنين إرضاء لزوجها.. فاجتاحها الندم على فعلها ذلك وتمنت لو أنها تركت الجنين ينمو في أحشائها حتى ميعاد الولادة، وأعقبت ذلك الندم عقدة نفسية جعلت بهانة تعيش في أحلام اليقظة، حيث يتسلم عقلها الباطني زمام أمورها في أغلب الأحيان.. فتارة تتخيل بأنها حامل وستلد عما قريب.. فتستعد لاستقبال الوليد استقبالاً حافلاً.. وتارة أخرى تتخيل بأنها ولدت بالفعل وأن الوليد حسبما يصوره لها خيالها كان بنتا أسمتها بهية.. فتسارع إلى نسج أثواب صغيرة لها.

وعندما بلغت بهانة سن الخمسين.. توفي زوجها تاركاً لها البيت الذي تسكن فيه ذا الحديقة التي فيها شجرة البرتقال في ضاحية الزيتون ثم تعرفت على بهادر أفندي... فتزوجته.. وشاركها العيش في بيتها. فمن هو بهادر أفندي؟ إنه مفتش في سكة الحديد.. قضى 35 عاماً من عمره في حياة رتيبة ومملة تتخللها هوايته للأشجار.. إلى أن قابل درويشاً أحدث تحولاً كبيراً في حياته.. ففي إحدى رحلات القطار وأثناء قيامه بالتفتيش.. ضبط بهادر أحد الركاب- وكان درويشاً - بدون تذكرة.. فلما سأله عنها وعن المحطة التي ركب القطار منها قال الدرويش بأنه لم يركب القطار من محطة معينة وإنما ركبه وهو يسير كالعادة مثل كل الناس وسينزل منه ومثل كل الناس أيضاً أثناء سيره، ولكن بهادر لم يكلف نفسه عناء التمعن في كلام الدرويش الغريب.. فكرر مطالبته بالتذكرة.. فأخرج الدرويش شهادة ميلاده.. وعندما أكد بهادر للدرويش أنه طلب تذكرة القطار وليس شهادة ميلاد.. أصر الدرويش بدوره بأن شهادة الميلاد التي في حوزته هي التذكرة التي يركب بها القطار.. فيتساءل بهادر: أي قطار؟ فيقول الدرويش: إنه القطار الأصلي الذي قام قبل القطار الفرعي؟ ولكن الدرويش أمام حزم وإصرار بهادر.. يمد يده خارج نافذة القطار في الهواء ويقبض على عشر تذاكر يقدمها إلى بهادر الذي يفحصها بدهشة ويجدها تذاكر حقيقية.. ومنذ تلك اللحظة تجتاح بهادر موجة إعجاب بالدرويش ويعتبره رجلاً مباركاً، فيتودد إليه ويطلب أن يكون من مريديه.. فيتنبأ الدرويش بأن بهادر سيتزوج امرأة تسكن بيتا ذا حديقة صغيرة في ضاحية الزيتون فيها شجرة تطرح البرتقال في الشتاء و المشمش في الربيع والتين في الصيف والرمان في الخريف وتعيش في جذع الشجرة «سحلية».

تحققت نبوءة الدرويش، فتزوج بهادر بهانة.. ووجد بالشجرة التي في الحديقة مرتعاً لإشباع هوايته.. وبينما كان كل عقل بهانة في ابنتها الوهمية بهية.. كان كل عقل بهادر في الشجرة.. مرت أعوام عاشها الزوجان في غاية الوفاق و الانسجام.. ولكنه وفاق غريب.. وانسجام عجيب.. فقد كان كل منهما يعيش في عالمه الخاص رغم أنه يظلهما سقف واحد.. فقد أحاط كل منها نفسه بهالة تجعله مستقلاً وكأنه كوكب له ميزاته الذاتية.. أما الوفاق أو الانسجام فقد كانا يتمثلان في حوار غريب يدور بينهما.. فإذا قالت بهانة إن سقوط الجنين من بطنها كان اضطرارياً و أنها نادمة أن مصير الجنين كان السقوط.. يقول بهادر إن سقوط بعض أغصان الشجرة سببه هبوب الرياح القوية التي تتعرض لها الشجرة، وإذا تساءلت بهانة ماذا سيحدث لو أنها تركت الجنين ينمو..يرد بهادر إنه كلما ازداد نمو أغصان الشجرة..ازدادت حاجة إلى التغذية الجيدة بالسماد.. وهلم جرا.. فأي وفاق يسود حياتهما وأي انسجام؟..

وذات مساء خرجت بهانة لشراء بكرة جديدة لكي تنسج ثوباً صغيراً لابنتها الوهمية وفي نفس الوقت لاحظ بهادر أن السحلية لم تعد إلى جحرها منذ أن غادرته، ومرت ساعات.. ولم تعد بهانة.. فيوم.. فيومان.. وفي اليوم الثالث اخترق بهادر هالة كوكبه فتجاذبته مشاعر القلق.. مستكثراً ثلاثة أيام لشراء بكرة الخيط.. فاتصل بالشرطة.

جاء ضابط التحقيق وباشر استجواب بهادر، وكانت أجوبة بهادر غريبة توحي بأنه تفوه بكلام يمكن أن يؤخذ على أنه شبه اعتراف بأنه قتل زوجته ودفنها تحت الشجرة ليتحول جسدها إلى سماد جيد حتى تثمر الشجرة أربعة أنواع من الفواكه في الفصول الأربعة. وانتهى الاستجواب باتهام بهادر بقتل زوجته، غير أن بهادر ينكر ذلك ويستعين بالدرويش لينتشله من هذه الورطة.. فالدرويش من الرجال المباركين وهو لا شك قادر على إنقاذه من هذه الأزمة.. وعندما يأتي الدرويش يطلب منه المحقق تعليل اختفاء بهانة.. فيقول الدرويش: إما أن بهادر قد قتل زوجته.. إما أنه لم يقتلها بعد.. وهكذا استجار بهادر بالرمضاء من النار فيصيح بالدرويش حانقاً: إنك ترى الآن أنني قتلت أو سأقتل زوجتي.. فلماذا لم تر ذلك حينما تنبأت بزواجي منها؟ فيجيب الدرويش: حينما تنبأت بزواجك من بهانة كان قطاري الأصلي قد وصل إلى حيث أستطيع أن أرى وأتنبأ بذلك الزواج.. ولم يكن قد وصل إلى حيث أستطيع أن أرى وأتنبأ بأنك ستقتل زوجتك.. وهاهو القطار الأصلي قد وصل الآن.. وأمكنني من أن أرى وأتنبأ.

أودع بهادر في السجن وباشر رجال الشرطة الحفر لاستخراج الجثة من تحت الشجرة بإشراف ضابط التحقيق.. وفي أثناء الحفر.. تظهر الزوجة.. فيندهش المحقق.. ولكنها تتجاهل اندهاشه و تتساءل عن سبب وجوده وتستنكر عملية الحفر الأمر الذي سيغضب زوجها ويحزنه.. فيشرح لها المحقق الظروف التي أدت إلى الحفر تحت الشجرة.. فتسخر بهانة منه وتقول: وهل كل من يغيب عن بيته يحسب أنه مقتول؟!

يفرج عن بهادر فيعود إلى بيته ويحمد الله على السلامة.. وتفقد شجرته وراعه الحفر الكبير تحت الشجرة.. ولكن ارتياعه هذا طغى عليه التعجب.. فقد لاحظ السحلية قد عادت إلى جحرها بعد غياب ثلاثة أيام!! ويرغب بهادر في معرفة المكان الذي كانت فيه بهانة طيلة الأيام الثلاثة.. فتتهرب بهانة من السؤال.. ولكنه يلح، فتركن إلى الكتمان فيزداد بهادر إلحاحاً.. فتتساءل بهانة هل هو يشك في أمرها؟ فينكر بهادر، إذن تقول بهانة لاداعي للسؤال.. ولكنه يريد أن يعرف.. أين كانت.. هل كانت في بيت أحد المعارف فتجيب بهانة.. لا، في فندق؟ لا، في مستشفى؟ لا، في سجن؟ لا، في بقالة؟ لا، في مسجد؟ لا في قطار؟ لا، في سيارة؟ في طائرة؟ في باخرة؟ لا.. لا.. لا.. واستمر يطوف بها في جميع الأماكن التي خطرت في باله وكان الجواب.. لا.. أين كانت إذن؟ إن هذا السؤال البسيط يكاد يقتله حنقاً لأنه بدون جواب. صحيح أنه لا يشك في أمرها.. لكنه يريد أن يعرف وكفى.. أين كانت.. فيضطر إلى استعمال العنف لإرغامها على الإفضاء بالمكان الذي كانت فيه، ولكن عبثاً .. فالجواب.. لا .. فيطبق على عنقها ويضغط قليلاً.. وبهانة تردد.. لا.. فيزيد ضغطا على عنقها.. انطقي.. أفضي بالمكان.. فتتسع عيناها ويتحشرج صوتها.. لا.. ثم ينحدر رأسها بين يدي زوجها.. وتحققت أخيراً نبوءة الدرويش.. إن آجلاً أم عاجلاً.

وبعد.. ها هو توفيق الحكيم في مسرحيته (ياطالع الشجرة) يخوض مع الخائضين في مسرح اللا معقول فإذا به يطلق العنان للخيال المغلف بالرمزية ليهدم بهما أركان المنطق والمعقول وعلى أطلالهما يقيم صرحاً جديداً حاذر أثناء بنائه استخدام العبث الذي اقترن به مسرح اللا معقول.. و اكتفى بالرمزية التي يتركها للمشاهد/ا لقارئ ليفسرها على هواه.

ومن الرمزيات التي ربما تستعصي على التفسير والفهم توحيد توقيت اختفاء وعودة السحلية وبهانة.. والفترة الطويلة التي تقضيها بهانة من عمرها تحلم بأوهام الأمومة.. أما مغزى الدرويش وقطاره الأصلي.. فلربما يتبادر إلى الذهن أن ذلك القطار هو قطار الحياة.. الذي يسير ويسير إلى الأمام على الدوام.. وأثناء سيره يخلق الإنسان فيتحصل على شهادة تؤهله لركوب القطار لمسافة معينة ثم يلفظه القطار عندما يحين الأجل المحتوم إن آجلاً أم عاجلاً.. والقطار يسير يؤدي دوره المرسوم في طريق الدهر الطويل. وأخيراً.. ربما يجوز استخلاص العبرة من تلك الشجرة الغريبة التي تثمر الفواكه الأربعة بأنها تمثل السعادة والازدهار اللذين يتطلع إليهما الإنسان.. ولكن السماد الذي تحتاجه الشجرة سماد ثمين.. إنه الإنسان ذاته.. لذلك فالحياة السعيدة المزدهرة الخالية من صروف الدهر للإنسان معدومة.. إذ لو استجاب وجعل من نفسه سمادا للشجرة.. لما تسنى له الاستمتاع بثمارها المختلفة.. فعلى الإنسان والحال كذلك أن يرضى بقدره بما فيها من مر الحياة أو حلوها على ألا يصبو إلى تلك الشجرة التي فيها هلاكه.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى