تحرير الذات أولا

> عبده عواد:

> من البديهي أن تكون الحرية غاية ما ينشده الإنسان في الحياة .

فالحياة للإنسان معناها حصوله على صفات الحياة التي لم يسبق له الحصول عليها والتمتع بها والتذوق بلذتها.

ولعل الحرية في أكمل معانيها ومفاهيمها الصحيحة هي الحياة التي ينشرها الإنسان وبالتالي الطبيعية له.

فلا غرابه إذن أن يبذل المرء كل مرتخص وغال ويكافح حتى الموت في سبيل التحرر من كل أنواع وألوان السيطرة والاستغلال والقيود والفاقة والجمود.

فعدم الوجود خير من الوجود المجرد من صفات الحياة الإنسانية أو من حياة المذلة والقيود والخوف.

وبقدر ما كان التحرر هدف الإنسان في الحياة والحصول على الحرية الصحيحة غاية هدفه بقدر ما كان الاستبداد والإخضاع والاستغلال هدف الطغاة في الحياة والمحافظة عليها غاية هدفهم، وقد اعتدى بعض الطغاة على الشعوب، وسلبوها حريتها بدافع النزعة الاستبدادية والاستغلالية الموجودة في نفسية كل طاغية.

وغالباً ما سلبوا حرية الشعوب لابالقسر والقوة في غفلة منها لقد كان الدجل والتضليل وجميع وسائل الخداع هي السلاح الذي استعملوها ويستعملونها في محاربة الشعوب، وبهذه الوسائل تمكنوا من صنع عقليات مريضة أتاحت لهم السيطرة على الشعوب واستغلال مقدراتها وخيراتها ولم حريتها.

ومنطق التاريخ يدلل على أن الشعوب المسلوبة الحرية لايمكن أن يعيدها إليها مغتصبوها عن رضاء ولا تنالها بمثل السهولة التي أخذت بها، بل لابد من صراع عنيف يجري ومعارك تحدث بين الحق المتمثل في الشعوب ونضالها وبين الباطل المتجسد في الطغاة وتشبثهم بالاستبداد والاستغلال وطبعاً النصر دائماً للحق وكلمة الشعوب هي الباقية والخالدة بيد أن الكفاح من أجل الحرية شاق وعنيف، وطريق الحرية قد يكون وعرا وطويلا، وذلك تبعا لمدى وعي الجماهير المكافحة لقضيتها، وإحساسها بالعبودية ومدى تماسكها ووحدتها وظروفها وشعور قادتها بالمسؤولية وإخلاصهم وقدرتهم القيادية في التنظيم والتخطيط والسير.

ولعل أصعب وأشق مراحل الكفاح هي المرحلة الأولى .. مرحلة الإعداد والتكوين.

إنها مرحلة هدم العقليات البالية المليئة بالسموم والرواسب، وتكوين عقليات جديدة نظيفة من الأدران والرواسب قابلة لاستيعاب وهضم الجديد والصحيح.

والعقليات الجديدة لا تختلق نفسها ولا تأتي عفواً بل لابدلها من خالق كما هو لابد لكل شيء من خالق وصانع وصانعو العقليات الجديدة في كل شعب ومجتمع هم الرواد والطليعة، ينبثقون من ذلك الشعب أو المجتمع.

ففي كل شعب أو مجتمع - مهما بلغ به الجهل والتخلف- لابد أن يوجد فيه ثمة أفراد بلغوا من الوعي والإدراك، إما بالدراسة والتثقيف أو بالاطلاع والتأثر بالعوامل درجة تؤهلهم للاضطلاع بمهمة الرواد.

غير أنه ليس كل من كان واعياً مثقفاً أو من يستطيع أن يقول كلاماً - أي كلام - يحمل صفة الرائد الحقيقي إلى التحرر. فالوعي والثقافة لا تكفي وحدها. وتنميق العبارات البراقة والتهويش وضبط رصف الكلمات لامحل لها في هذه الناحية أو كما يقال ( في الإعراب).

بل لابد أن يصحب الوعي الناضج والثقافة الواسعة تحرر الذات من الغرور والأنانية والتعصب وحب السيطرة والمطامع الرخيصة والكذب والخداع وغيرها.

إلى جانب هذا إظهار التحدي للتقاليد الجامدة والتمرد على العادات ومحاربة كل ماهو قائم بشجاعة وصراحة وإصرار، وأن يكون ذلك خلقاً وسلوكاً ثابتاً ينعكس في الأعمال والتصرفات.

هذه الصفات التي يجب أن تتوفر في الشخص الرائد إلى التحرر والحرية في الطليعة المؤمنة بالحرية المخلصة للجماهير.

ولكن هذه الصفات قل من يحملها سوى أفراد قلائل آمنوا بوطنهم وشعوبهم وقوميتهم كإيمانهم بربهم، وقد صعدوا سلم المجد حتى القمة من رائد إلى زعيم إلى قائد ولم يطفروا فجأة إلى الصف القيادي رغم ما قدموه من أعمال و تضحيات وجهود لشعوبهم بل صعدوا درجة درجة.

وإذا ألقينا نظرة على قضيتنا وعلى الوسائل والأساليب الكفاحية التي تعتمد عليها ماذا سنجد.. سنجد أولاً أن شعبنا اليوم قد يكون أكثر الشعوب تخلفاً وجهلاً وجموداً غير متفائل ومتجاوب مع الحركة التحررية.

وهذا لايعني أن شعبنا مفقود المعنوية والشجاعة.. كلا فإنه أكثر الشعوب شجاعة وأقواها عزيمة وشكيمة وغيرة وإصراراً وتضحية واستجابة عن سبيل التحرر والدفاع عن حقه وقوميته.

ولكنه لم يهتد بعد إلى الطريق الصحيح، طريق الكفاح الصحيح.. طريق التحرر الصحيح، وأمل هذا هو الباعث على انفصاله وابتعاده وعدم تجاوبه مع المتصدرين للكفاح.

وسنجد أيضاً أن لدينا مجموعة من الشباب الواعي ما يكفي لأن يكونوا الطليعة الجديدة ورواد الفكرة الصحيحة إذا بدأوا بتحرير أنفسهم وجعلوا الكفاح سلوكاً وأخلاقاً.

لأن الأساليب والوسائل التي يعتمدون عليها اليوم تدل على أن عقلياتهم لم تتحرر بعد من بعض الرواسب والعفونات التي يشتم رائحتها من خلال تصرفاتهم وسلوكهم المتنافي وما يدعونه.

إنهم يقولون مالا يفعلون، ويظهرون خلاف ما يبطنون والتهويش والتهريج وإلهاب العواطف بالكلمات والعبارات الحماسية هي وسائلهم في الكفاح وهي سبيلهم إلى تحرير الشعب من العبودية والقيود والجهل والتخلف.

أما الفكرة والتنظيم والتكوين وتوحيد الصف والعمل الهادف، والسير في اتزان وحكمة كله هذا - كما يبدو- أشياء ثانوية.

إننا لانزال في أول الطريق نقف عند بداية المرحلة الأولى، والطريق كما قلنا آنفاً وعر وطويل ومظلم، لم تتضح معالم أطرافه بعد.

وكم لاح لنا سابقاً في الأفق البعيد ما يشبه النور خلناه قبساً من نور يرسل خيوطه عبر الطريق، غير أننا كنا نرتطم بالصخور في كل مرة نحاول فيها السير على هدى ذلك القبس أو بصيص ذلك النور، وعند أول محاولة للخطوة الأولى يختفي ذلك القبس أوبالأصح المصباح السحري، فنتبين أننا ضللنا الطريق، ومازلنا نتخبط في الظلام .. الظلام الذي يتسلل إليه شعاع الفجر أو بصيص الأمل.

لهذا فإن حاجتنا إلى الإنار والتنبيه، إلى الفكرة والتنظيم، إلى النوعية والتبصير، إلى الإعداد والتكوين، إلى العمل الهادئ،الهادف، أكثر من حاجتنا إلى استثارة الهمم، وبذل المعنويات، وخلق الحماس، المنطبع على كفاحنا اليوم والذي لن يتمخض إلا عن فورة من الحماس الطارئ سرعان ماتنطفئ وتختفي.

لأن الحماس الذي لا ينبعث من أعماق فكرة في نفوس الجماهير إنما هو حماس طارئ تأتي نتائجه عكسية وخطيرة. وأن الجماعة والأفراد القائم كفاحهم على إثارة العواطف، وبعث الحماس لأعلى الفكرة والتنظيم، إنما هم في الحقيقة إما انتهازيون يشغلون حماس الجماهير لأغراضهم الشخصية والشخصية وحدها أو جهلة ومغفلون مغرمون بالظهور.

وأنا هنا لا أعني شبابنا كل شبابنا، ففيهم الشرفاء الذين أثبتوا إخلاصهم وأظهروا صدق وطنيتهم وصمودهم وأثبتوا أيضاً أنهم يتمتعون بمواهب تؤهلهم لأن يضعوا الأسس الصحيحة المتينة لبناء حركة هادفة بناءة قوية يسير موكبها نحو الغاية لا متعثرة.

وبقدر ما يحمل شبابنا من الصفات المؤهلة بقدر ما تعوزهم الجرأة إلى تحرير أنفسهم من بعض الرواسب والعادات والأساليب الكفاحية العتيقة .

وإلى أن يتم ذلك حينئذ يمكننا القول بأن العقليات الجديدة خرجت إلى حيز الوجود، وأنه قد آن لموكب الحركة الصحيحة أن تخرج إلى النور وإن شمس الحرية ستشرق علينا قريباً ويعم نوره أرجاء وطننا. وما أحوجنا اليوم إلى طليعة متحررة إلى رواد الفكرة الصحيحة للحرية إلى العمل والبناء.

العدد ( الأول ) في 7 / أغسطس/ 1958م

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى