القصائد الوصايا!

> «الأيام» د.نزار محمد عبده غانم:

> مفتتح:لم تزل يا (بني) ترنو إلى شعري بعين المتيم الولهان .. مثلما كنت حين كنت غلاماً بأبيه يزهو على الغلمان ..وحماس المحب قد يحجب العيب فلا تهتدي له العينان.

إن أكن يا (بني) صرت رفاتاً في ضريحي بعد السنين الثماني

فأنا في السماء باق بروحي سابحاً بين حبها والحنان

فلقد كنت في الحياة رحيماً لا أطيق العذاب للإنسان

أمقت الظلم دائماً أينما حل وأدعو للبر والإحسان

فتلاشت بعد الممات ذنوبي- وهي كثر- في رحمة الرحمن

غسل العفو زلتي واستحمت مهجتي في أشعة الغفران

من قصيدة (العالم عام ألفين) للشاعر

د. محمد عبده غانم

شعر الأسرة بين غانم وكمال نشأت:

ربما كان الناقد والشاعر العراقي هلال ناجي من أوائل من تنبه إلى الحضور الكثيف لشعر الأسرة في قصائد والدي الشاعر اليمني الراحل المقيم محمد عبده غانم، ففي كتابه (شعراء اليمن المعاصرون) الذي أفرد فيه صفحات لمحمد عبده غانم يشير إلى أن الأسرة زوجة وأبناء، بل وأبا وأما لها حضور واضح في إنتاج غانم الأب الشعري.. وفي النمذجة لذلك يختار هلال ناجي قصيدة (نزار) التي جاءت في ديوان غانم الثاني (موج وصخر) الصادر في مطلع الستينات ليقول إنها الأعذب في التعبير عن عاطفة الأبوة، وإن كان يعود ليقول إن هذه القصيدة وغيرها من شعر الأسرة عند غانم لا تحمل تلك الجمالية التي في شعر الأسرة لدى الشاعر المصري كمال نشأت حسب رأيه:

(نزار) يابهجة هذا الورى لولاك لم يعبق ولم يسطع

لم يفرح الساري ببدر الدجى ولا هفا الصادي إلى المشرع

مثلي إذا ما جئتني ضاحكاً تدلف أو تحبو إلى مخدعي

وتجذب الرف فتهوي الدمى ترجف في القاعة كالقوقع

حتى إذا فرقتها لاهياً في الركن تحت الفرش في المضجع

مددت نحوي الكف خذني ألا خذني واحملني على الأذرع

ونجد الأكاديمي السوماني بروفسور مبارك حسن الخليفة الأستاذ بجامعة عدن يخصص دراسة منشورة عن شعر الأسرة عند محمد عبده غانم أعانه في الاستطراد فيها تلك القصائد التي كتبها غانم في أولاده وحفدته لعقود بعد كتابة هلال ناجي تلك.

المرحلة السودانية والقصائد الوصايا:

ولأنني الأصغر بين الدكاترة غانم، فقد رافقت أبي في حقبة من أصعب مراحل حياته، وأعني بها مغادرته القسرية لوكره الدافئ في عدن وهيامه بين جيبوتي وبيروت ولندن إلى أن استقر به الشوط في السودان أستاذاً للأدب العربي بقسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة الخرطوم، وهناك عشت مع أبي وأمي سنوات دراستي الثانوية 1977-1974م. والمرحلة السودانية في شعر بل في حياة غانم محطة مهمة، وقد أشار الدكتور عبدالعزيز المقالح إلى أن غانماً كتب إحدى أهم قصائده وهي (في المركبة) في تلك الحقبة وهي قصيدة ذات طعم خاص مضموناً وشكلاً، وأضيف إلى تلك القصيدة عدد من قصائد المرحلة السودانية التي لاشك أن الناقد الحصيف سيقف عندها وعند معمارها المغاير مثل قصيدة (لا تقولي..) وفيها غزل بالجمال السوداني الأثير وتاريخها 2 مايو 1975م:

عبلة المبسم - طفلة المعصم- جزلة المنجم - في الملأ الجم

ناصعاً معلم - طاف حتى ضم - فرعك الأسحم - شف حتى نم

عن جمال تم - كيفه والكم - لا تقولي (دم)- لا أطيق الذم

والحشا ملزم - بالهوى مرغم - جاش بل دمدم - بالجوى العندم

قد جرى في الدم - وانتشى في الفم - فيضه العيلم - آن أن يفغم

قلبي المغرم - بالشذى المفعم -آن أن يفهم - سرك المبهم

آن أن يرحم - سحرك الأدهم - من له طلسم

في تلك الفترة بدأت أكتب إرهاصاتي الشعرية، وكنت أعرضها عليه فينصحني بالقراءة خاصة القرآن الكريم وتجاوز تلك المحاولات إلى آفاق أكثر حرية.

وفي يوم من الأيام كتبت مقطوعة بعنوان (هل تذكرين) فأخذ يقرؤها و يعيد قراءتها حتى خرج ليقول لي:(ما زال هذا الفتى يهذي ويهذي حتى قال الشعر!)

وفي تلك الفترة نفسها أيضاً أخذت على يديه أولى دروسي في النوطة الموسيقية التي كان له أسلوب خاص في تبسيطها، وكان الدرس الأول أغنية صنعانية تغنى بها الشيخ علي أبوبكر باشراحيل هي (حبيبي إن هذا يوم عيدي) الموجودة ضمن حكميات كتاب (شعر الغناء الصنعاني) لغانم. وكان والدي قد تعلم العزف على القنبوس ذي الأوتار الأربعة بادئ الأمر على يد الفنان العطاب الذي فرّ بفنه من شمال اليمن إلى مدينة عدن في العشرينيات من القرن المنصرم، كما كان متأثراً بطريقة عزف الشيخ علي أبوبكر باشراحيل التي لا يلتزم فيها بالإيقاع بالضرورة خاصة بعد أن توقف الفنان صالح العنتري عن مرافقته عازفاً على الإيقاع فكان أسلوبه أقرب إلى ما يعرف بالموسيقى الحرة أو الدكافونية كما يرى الموسيقار الراحل جميل عثمان غانم.وحينما قرر غانم العودة إلى الوطن للعمل بجامعة صنعاء بدعوة من الدكتور عبدالكريم الإرياني كتب قصيدة بعنوان (وداع الملتقى) فيها وفاء لأرض النيلين وفيها تطلع إلى صنعاء التي لابد منها وإن طال السفر. وفي آخر تلك القصيدة يقول إنه يتركني في تلك البلاد- حيث بدأت دراستي الطب- لأحظى مثله بالجزيل، ومنذ تلك القصيدة - الوصية أصبح حب السودان يدخل عندي في طاعة الوالدين! يقول فيها:

ملتقى النيلين ما زلت على العهد الأصيل

لست أنسى فيك أسماري ولا طيب مقيلي

ولقد خلفت للعهد على الشط سليلي

يرد الحوض ليسقى من نمير سلسبيل

واثقاً أن سوف يحظى كأبيه بالجزيل

وقبل تلك القصيدة كتب أبياتاً بعنوان (في جنة العلم) بمناسبة قبولي في كلية الطب بجامعة الخرطوم يرسم الرحلة الجامعية التي يراها لي، يقول فيها:

والآن قد صرت إلى بابها فقف قليلاً عند أعتابها

واستقبل القبلة كيما ترى رضوانها يهدي لمحرابها

فإنها الجنة قد أزلفت في الأرض بالعلم لأصحابها

ينهل من كوثرها كل من يسعى إلى الحوض بأكوابها

وكل من طاف بأقداسها ونال من حكمة أربابها

سبع سنين أنت في ظلها فانظر إلى أين سترقى بها

لو شئت نلت المبتغى عندها وصرت من أسعد طلابها

تأكل من رمانها تارة وتارة تحظى بأعنابها

وتارة بالحور في ساحها تلهو وبالولدان أترابها

فاعمل هداك الله حتى ترى تخرج بالرضوان من بابها

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى