محاضرات عن الدستور البريطاني

> محمد حامد عبدالغني

> المقدمة:يعتبر الدستور البريطاني مادة خصبة ومرتعا ناضرا لجميع المهتمين بأمور تسيير دفة الحكم، ليس في الجزرالبريطانية وحدها ولكن في جميع البلاد الأخرى التي تنتهج طريقة الحكم الدستوري المتقن، وطلاب العلوم السياسية هم أشد الناس ولوعاً بالدستور البريطاني ودراسته من شتى النواحي، وقد يتوصل هؤلاء بعد طول دراسة وتمحيص إلى نقاط عدة ينظر كل منهم إليها نظرة ملائمة تروق له، والاستنتاجات بهذا الصدد كثيرة ومتشعبة.

ما الذي دفعني إذن إلى كتابة هذه الأحاديث عن الدستور البريطاني، وما هو الحافز وراء هذه الكتابات؟ جوابي على ذلك أن مادة الدستور البريطاني بالرغم من كونها مادة خصبة، كما ذكرت سابقا،ً إلا أنها في الوقت نفسه مادة شبه جامدة، هذا إذا قيست بالنسبة إلى مادة الجغرافيا والدراسات الاجتماعية على دراسة مادة الدستور البريطاني، ودلتني الإحصاءات الأخيرة على ازدياد المتقدمين من الطلبة في كل من المستوى العادي والمستوى العالي من امتحانات شهادة التربية العامة من جامعة لندن، وكثير من هؤلاء الذين تقدموا لم تثبط هممهم الهزيمة بل قوت منها واستمروا يواصلون دراساتهم بعزيمة حتى يحصلوا على الدرجات المطلوبة واجتازوا عندئذ الامتحان بنجاح.

على أن هذه المواصلة في الدرس والتحصيل بالرغم من الشعور بالخيبة في بادئ الأمر وعدم الحصول على الدرجات الكافية التي تضمن النجاح والذي يدفع المرء إلى الخروج باستنتاج له من الظواهر ما يبرره، وهو أن مادة الدستور البريطاني أصبحت إحدى المواد المهمة في قائمة الامتحانات السنوية التي تعقدها جامعة لندن التي تعتبر من أشهر جامعات العالم وحتى وقت قريب لا يتعدى الأربعة أشهر، كنت على جهل تام بهذه المادة وكنت كغيري من الذين عقدوا النية على التقدم لها في امتحانات الجامعة المذكورة، وكانت تعتبر مادة جامدة ترهق العقل والجسم ولا يستطيع المتقدم لها أن يخرج منها بنتيجة، ولكن العكس حدث، فعندما بدأت أطالع الدستور البريطاني شعرت بشعور غريب يصعب تفسيره، ولكن أقل ما يمكن أن يوصف به هو شعور الزهو، فدراسة هذه المادة قبل التعمق فيها تضفي على القارئ شعوراً بأنه يمكن له أن يناقش ويجادل حتى على أساس أولي في مواد الدستور البريطاني والدعامات التي يرتكز عليها.

والعقبة الأساسية التي تقف في طريق المتقدم لمادة الدستور في امتحانات جامعة لندن هي إيجاد الكتب اللازمة لهذه المادة، وترى هذا المتقدم بعد تسجيل اسمه في قائمة المتقدمين ودفع الرسوم المقررة يضيع ويرهق نفسه وسط دوامة من أحاديث الأصدقاء، فهذا صديق يلاقيه في الشارع فيصف له كتاباً يقسم بأنه لا محالة سيجعله يجتاز الامتحان بنجاح، ويلتقي بآخر فيصف له كتاباً آخر، وثالث يعده بأنه سيعطيه مجموعة من مذكراته القديمة أو المحاضرات التي تضمن النجاح، ووسط هذه الدوامة يفقد المتقدم شعوره بالثقة في إمكان اجتياز الامتحان بسهولة، وتبدو أمامه فرص ضئيلة جداً للنجاح.

وأنا في أحاديثي هذه عمدت بالطبع إلى هذة المقدمة الطويلة وأملي كبير في أن الكثير من هذه الشكوك والوساوس التي تطغى على نفس الطالب المتقدم لمادة الدستور البريطاني ستزول متى ماحاول القضاء على هذه العناصر في نفسه بكل صلابة، والعجز في الامتحانات مشكلة كبرى إن لم تقل إن حلها مستحيل، فلا أقل من أن نصف حلها بالتعقيد والصعوبة، والشعور بالفشل في نفس الطالب شعور قوي له خصائصه من العبث على الآخرين أن يعمدوا إلى إزالته وتهدئته بالطرق المختلفة، كما أن الشعور بالتعلق قبل دخول الامتحان هو تقريباً على سجية الشعور نفسه بعد دخول الامتحان.. لهذا كله عمد الكتاب والفلاسفة وعلماء النفس على اختلاف تفكيرهم إلى تحليل هذين - وأعني القلق والفشل- بشتى الوسائل جاهدين للوصول إلى حل مناسب.

وأول شيء أود أن أصارح به المتقدمين هو ألايعمدوا إلى فتح مصاريع آذانهم على سعتها، لكن نصيحة بصدد الكتب والمحاضرات وغيرها لأن هذا يضيف إلى شعورهم بالقلق وتتراكم الكتب المختلفة على مكاتبهم بدون جدوى، ولا يؤدي هذا بالطبع إلا إلى تعقيد الأمور، فمتى ما شعرت في نفسك ياصديقي المتقدم برغبة قوية للدخول في امتحان مماثل، وليس ضرورياً امتحان الدستور البريطاني، فما عليك إلا أن تغرس في نفسك الثقة قبل شروعك في اختيار الكتب الملائمة للدراسة، وبخصوص الدستور البريطاني يجد المرء نفسه محيراً بين تلك المجلدات الضخمة والكتب الصغيرة والمحاضرات للكثيرين من الكتاب الإنجليز والهنود وغيرهم، ولكن ليس معنى هذا أن المتقدم يجد نفسه ملزما بقراءة هذا الحشد الهائل من المؤلفات بل تخير الأصلح والمناسب لك ولفهمك ومستواك العام، فبعض الكتاب يعمدون إلى إظهار آرائهم في شكل من زخارف الألفاظ والبعض الآخر يكتب بلغة بسيطة يسهل فهمها ولكنك في أغلب الأحيان تفتقد الحقائق التي تبحث عنها، على كل حال ليس هذا هو بيت القصيد كما يقولون، فإذا تطرقنا إلى طرق المذاكرة والدرس نجد أنفسنا عاجزين عن ابتكار الطرق الصحيحة، فكل واحد يختلف في طريقة المذاكرة عن الآخر، كما أن الظروف والبيئة مسئولان مباشرة عن تقرير الوسائل المختلفة للقراءة. لكنني بالرغم من كل هذا أقول لجميع أولئك المتقدمين لامتحانات المستوى العالي والعادي لجامعة لندن والذين يزداد عددهم على مر الأعوام ماقاله أوسكار وايلد حينما سئل عن سبل النجاح فرد على هذا بقوله: «كثير من الفشل وقليل من الثقة يعادلان النجاح، وهذا لا يعني أن الثقة في نفس الإنسان تتفاعل وتزداد إلى درجة يصح تسميتها بالإهمال والكسل، فلابد إذن من المذاكرة والقراءة والاطلاع، لأن هذه طبيعياً من أهم عوامل الثقة في نفس الإنسان.

ولقد عمدت في أحاديثي عن الدستور البريطاني إلى جعلها على شكل محاضرات يسهل على أخي المهتم بها تتبعها في حلقات عدة، وليكون على الأقل فكرة أولية عن الدستور البريطاني، فكرة عامة يستطيع بعدها أن يباشر طريقته في مطالعة الكتب المختلفة لمشاهير المؤلفين في هذا الحقل وبما أن مادة الدستور البريطاني تحتاج إلى اطلاع كبير على مختلف المؤلفات التي صدرت بهذا الصدد والتطورات التي جرت على بنود الدستور، وجدت نفسي ملزماً أن أطرق أكثرمن موضوع وأن أدرس أكثر من كتاب خاصة تلك التراجم إلى اللغة العربية للأستاذ ايرون الكسندر ومحاضرات «كلية النجاح السريع» حول «قواعد الإدارة العامة» وكتاب للمؤلفة الهندية «نوشران جابغالا» وكتاب آخر للسرآيفر جنتجر، وفي اعتقادي ان احسن ما كتب عن الدستور البريطاني هو خلاصة ماورد في كتاب «القانون والدستور» للبرفسور رايسي الذي أجمع العلماء البريطانيون على تسميته «بأبي الدستور» لما يتمتع به من مكانة مرموقة في ميدان التأليف حول قواعد الدستور البريطاني، وكما ذكرت سابقاً كان أملي كبير في أن أكون قد أعطيت المتتبع لهذه الأحاديث صورة صحيحة وفي نفس الوقت مبسطة عن خصائص الدستور ودعاماته التي يستند عليها، هذا بالإضافه إلى شرح واف للخدمة المدنية والحكومة المحلية والقضاء في بريطانيا.

حقوق الطبع والاقتباس محفوظه للكاتب المحاضرة الاولى

العدد(7) في 16/ أغسطس/ 1958م

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى