قصة قصيرة .. الطائشة

> «الأيام» جمال الشريف:

> ليلة غريبة.. كان وحيداً.. استلقى في سريره الخالي.. الوحشة والقلق قاسماه فراشه البارد وغرفته المظلمة.. حاول النوم.. عجز.. شعر بحركة مريبة.. ظن حينها أنها حضرت.. حضرت خلسة.. لم يعتد حضورها.. لم يستغربه.. يعرف اندفاعها وتهورها.. جريئة.. جاءت تشاركه ليلته التعيسة وجنونه المعهود.

دخلت.. دفعت الباب الموراب بهدوء وحذر.. تخشى شيئاً ما، ربما الاصطدام بالأثات، أو ربما اعتقدت حينها أنه نائم.. لم تكن تريد إزعاجه وإيقاظه.. كان مستيقظاً.. منتبهاً.. واستطاع أن يراها من مكانه، ويراقب حركتها المضطربة.. كانت تبدو مرتبكة ومترددة.. صراع عنيف نشب بينها وبين نفسها القلقة.. صراع مرير اشتد مع ذاتها المتمردة.. معركة حامية اشتعلت بين رغبتها في البقاء والمكوث عنده، وفي غرفته، وبين عزمها المتردد في الرحيل والمغادرة.. في ذلك الوقت شعرت بالخوف، بالرعب.. أدركت حجم الخطأ الذي اقترفته في حضورها إلى غرفته.. خطيئة كبرى، ربما ستقدم عليها إن هي بقيت معه.. أحست بأنها كانت حماقة أقدمت عليها دون إرادتها.. لامت نفسها حينئذٍ.. شعرت بالخجل من سوء تقديرها للموقف وفي وجودها غير المناسب، في ذلك المكان، وفي مثل تلك الساعة المتأخرة من الليل.

كان تصرفها مستهتراً، لا مبالٍ، قادها للندم، لا شك في ذلك.. كانت لا تدري كيف أنها كانت راضية وفرحة قبل هذا الوقت، ومقتنعة في ملاقاته وصحبته، وكانت ترغب مشاركته في تمضية لحظات قليلة، ماجنة، حافلة بالمتعة الزائفة، والزائلة، كانا لاشك سيسرقانها من الزمن، ومن وقت تلك الليلة النادرة ويقتسمان لذتها معا.

لكنها.. في ذلك الوقت كان يبدو عليها أنها أفاقت خلال هذه اللحظات الحاسمة.. صحت أخيراً من غفلتها، واستسلامها المتخاذل، واللاواعي، وانقيادها الأعمى في سيرها المتخبط نحو سراديب الوهم المقفرة، التي تورطت في اقتحامها بجنون.. ومؤكد أنها في ذلك الوقت أدركت فداحة الخسارة التي ستلحق بها.. كانت تخشى أن توصم بالعار.. تخاف الوقوع في العيب، في المحظور، والسقوط.

في ذلك الوقت، شعرت بأنه يجب عليها أن ترحل في الحال.. يجب أن تهرب منه، وأن تفر إلى حيث لا مكان، ولا زمان يكون فيهما موجوداً معها.. لكنها في الوقت ذاته كانت لاتدري كيف أنها ستتمكن من ذلك، وقد أمست حبيسة غرفته، ورغبته معاً، ومؤكد أنه لن يريدها تهرب منه بعد أن أمست حقيقة موجودة في غرفته.

بدأ جسدها يرتجف حينئذٍ.. ارتعشت أطرافها، وتسارعت نبضات قلبها.. أحست برغبة شديدة في البكاء والصراخ، وربما الاستغاثة.. كانت هائجة، تدور في أرجاء الغرفة الضيقة، عديمة الحيلة، لكنها في الأخير هدأت، استكانت، وربما استسلمت لقدرها ومصيرها المحتوم.. تكومت حينئذٍ، وتقرفصت في ركن الغرفة بيأس، وانتظار لا مجدٍ لأمل مزيف.. كانت حقا محبطة.. لكن فجأة.. فجأة أحست بشيء جديد بدأ ينمو في جسدها.. شيء لم تألفه من قبل، لكنه صار جزءا من جسدها.. حينها شعرت بأقدامها العارية لا تلامس الأرض، أرض الغرفة الباردة.. كأن شيئاً ما أو شخصاً ما حملها حينئذٍ ورفعها من على الأرض.. أحست بنفسها تستطيع القيام بحركة جديدة، تستطيع الطيران بحرية في الهواء.. كأنها قد نبتت لها أجنحة شفافة لا مرئية، لتساعدها على التحليق في الفضاء الواسع.. قدرة عجيبة، وقوة خارقة امتلكتها بشكل حقيقي مكنتها من الطيران بكل ثقة، ومن دون أن تقع، أو تسقط على الأرض، وكانت تستطيع أن تهبط بانسياب وتحط في أي مكان تريده، وحينما ترغب في ذلك، وبكل براعة واقتدار.

حطت على الطاولة القريبة من السرير.. وطارت.. حطت مرة أخرى على حافة السرير بتحدٍ.. وطارت مجدداً بسعادة.. وحطت بعد ذلك على شرفة النافذة المفتوحة.

حينها أصابني الذهول.. تجمدت في مكاني.. كنت مستغرباً، مندهشاً.. حاولت النهوض، عجزت، فقط كنت أتتبعها بعينيّ الحائرتين.. تمالكت نفسي، ونهضت بصعوبة، وهممت اللحاق بها إلى شرفة النافذة، محاولاً الإمساك والإيقاع بها، لكنها طارت بخفة ورشاقة، وتمكنت من الفرار، وهربت إلى خارج الغرفة.. لم أتمكن من السيطرة والاستيلاء عليها، لم أتمكن من القبض عليها.. طارت، ابتعدت، وغابت عن ناظري.. اختفت في الظلام الكثيف للشارع الضيق، ومتاهة المدينة النائمة في العتمة والغفلة.. بيد أنني في ذلك القوت، وبالرغم من أنني لم أتمكن من إيقافها، ومنعها من الرحيل والهروب، إلا أنني لم أغضب، ولم أشعر بالأسف لفقدانها وضياعها مني.. كنت مدركاً في ذلك الوقت، ومتأكداً أيضاً من أنها لم تكن امرأة تلك التي زارتني في غرفتي تلك الليلة.

وكنت أشتهي حضورها وبقاءها عندي، وأيضاً لم تكن حمامة بيضاء، منهكة ظلت طريقها إلى غرفتي، تطلب الراحة لبعض الوقت.. إنها لم تكن شيئاً من ذلك سوى أنها كانت مجرد فكرة!! فكرة طائشة راودتني تلك الليلة، وكانت تدور في رأسي حائرة، حاولت استحضارها، فحضرت في الحال، لكنني رأيتها خرجت من رأسي بحذر، وكانت مسرورة، وتسللت من عقلي ومن تفكيري، بفرح وسعادة، لتمرح معي لبعض الوقت، وتلهو في أرجاء غرفتي بحرية، لكنها طارت.. طارت الفكرة، وهربت مني، وحلقت في الفضاء اللامتناهي، وغادرتني إلى الأبد.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى