تصنيف الناس في العلم والقسطاس

> حسين راشد:

> حين صنف الإمام الغزالي- رحمه الله- الناس لثلاثة أصناف, وهذا كي يعرف الإنسان الواعي كيفية التعامل مع العقول المختلفة والفرق بين الناس والذي ينفيه البعض الآن ويدّعون أن العامة كالخاصة لهم الحقوق في الحكم على المواقف ويأخذ برأيهم مساوياً لصاحب الفطنة والحكمة.

متناسين أن الله سبحانه وتعالى رفع بعضنا فوق بعض درجات, وأن هذه الدرجات قد تكون في العلم وقد تكون في الرزق وقد تكون في الحساب, و أن كلا منا له عمله وواجبه على هذه الأرض، ويجب أن يعمل كل منا بما أتاه الله من نعم و ألا يخرج عن قدر استطاعته ولا يبدي برأي فيما يجهله حتى يبقى الميزان متوازنا.

ولا شك أن الله سبحانه وتعالى وهو الذي خلق الخلق قد اصطفى من الناس رسلاً ولم يجعل كل بني البشر كذلك كي يكون هناك توازناً و يكون هناك بالفعل اختباراً حقيقياً, ولو شاء الله لجعلنا جميعاً أمة واحدة بفكر واحد و أخلاق واحدة ومصير واحد..

ولأن في اختلافنا رحمة فذلك لكون صاحب الأمانة والذي ميزه الله بالعلم والمعرفة والفطرة السليمة هو القادر على توصيل العلم أياً كان نوعه إلى من لم يصلهم ذاك العلم أو شغلتهم أمور الدنيا عنها بما حملوا من أمانات أخرى كالعمل و بذل الجهد العضلي الذي يبعد أهل الصناعات خاصة عن الفكر في غير ما يصنعون حتى يجيدون صنعهم, وأن الناس لو كانوا على مقدار واحد من الفكر والعمل فكيف سيكون التكامل الآدمي إذاً, وبل كيف كنا سنجد الصانع والزارع والعالم و الخادم و ما إلى ذلك من أعمال من الصعب أن تجتمع في شخص واحد, ولأنها لو اجتمعت فلن يستطيع العمل بها جميعاً بل ستعوقه مقدرة على مقدرة ٍ أخرى، وهكذا فيحدث التفاوت الطبيعي والتصنيف التكاملي بين البشر.

جاء تصنيف الغزالي في هذه النقطة ليوضح لنا أن هناك ثلاثة أصناف من البشر على حد ما وصل إليه بعد تأمل وهم على حد وصفه: عوام : وهم أهل السلامة البُله, أي العامة على فطرتهم.

خواص: وهم أهل الذكاء والبصيرة.

و يتولد بينهم طائفة هم ( أهل الجدل).

كان هذا تصنيف الغزالي في كتابه (القسطاس المستقيم) وحين أراد أن يوضح نظريته فقال:«إن الخواص يعالجهم بأن يعلمهم الموازين القسط, وكيفية الوزن بها (وهنا الميزان ليس ميزان البائع للبضاعة، بل هو ميزان الفكر بالطبع) أي أنه يضع أمامهم المبادئ الأساسية والعلوم التي جبل الله عليها الإنسان و علمه إياها كي يعمر الأرض و ما هو الخير وما هو الشر».

وقال: «إن هذا يرفع الخلاف بينهم على قرب, وهؤلاء قوم اجتمع فيهم خصال ثلاث: إحداهما: القريحة النافذة, والفطنة القوية, وهذه عطية فطرية أي أن الله قد فطر الإنسان عليها , وغريزة جبلية لا يمكن كسبها.

أما الخصلة الثانية: خلو باطنهم من تقليد و تعصب لمذهب موروث مسموع, فإن المقلد لا يصغي , والبليد و إن أصغى لا يفهم.

أما الخصلة الثالثة: هي أن يعتقد فيّ أني من أهل البصيرة بالميزان, ومن لم يؤمن بأنك من أهل الحساب, لا يمكنه أن يتعلم منك.وأما البله, وهم جميع العوام, وهم الذين ليس لهم فطنة لفهم الحقائق, فأدعو هؤلاء إلى الله بالموعظة. كما أدعو أهل البصيرة بالحكمة, وأدعو أهل الشغب بالمجادلة».

وهنا يتراءى لنا أساليب الحوار .. وماهية النوعيات التي يمكن أن يتعامل معها أي كاتب أو مفكر مع العالم, و تبرز وتتجلى الحقيقة المغيبة عن الجميع في أن أمانة الفكر والعمل عليه ليست (رسالة دكتوراه) وليست (بعض الكتابات الشخصية) وليست صنفاً من صنوف الأدب، بل هي قريحة جبل الإنسان عليها منذ سليقته, و ليس كل حامل علم بعالم, فقد يكون (كالحمار يحمل أسفاراً).

الحديث عن الشخصية المفكرة التي تستطيع استيعاب هذه الاختلافات الفكرية يجب أن تتحلا بحكمة ورزانة وفطنة وكياسة تفوق حد الاحتواء كي نوجد من تجتمع عليه الأصناف الفكرية جمعاء.

ولا شك أننا في هذه المرحلة الزمنية قد افتقدنا لأصول الفكر, و عدنا إلى نقطة الصفر الفكري , و هذا يتضح في كثير من النقاشات والحوارات الجوفاء التي تطفح على السطح بأمور (جدلية) خالية تماماً من ميزان العلم والفكر فتنتهي عقماء كما ولدت عقماء.

وتحضرني في هذه اللحظة مقولة لـ(لورانس) الملقب بلورانس العرب في كتابه (أعمدة الحكمة السبعة) صـ 38 واصفاً المجتمع العربي الذي تغلغل بداخله و عاش به فترات طويلة وعايشهم في كل أحوالهم في السراء والضراء فجاءت هذه الجملة على لسان قلمه «إن العرب يمكن أن يكونوا متأرجحين في فكرة ما, كما لو أنهم يمشون على حبل, فعدم إخلاصهم لأفكارهم و عقولهم جعلهم عبيدا مطيعين».

وفي موضع آخر وصف الشخصية العربية بأنها «شخصية تحمل من الفكر وسرعة البديهة ما يجعلها أمة عظيمة تخشاها الدول الكبرى». هذا و أضيف على ما قاله لو أنهم أخلصوا لأفكارهم و استثمروا الفكر, وهذا ما يدعونا إلى العودة للبحث عن (الحكيم) الذي يستطيع وزن الأمور و التعامل مع المتغيرات ومجادلة المجادلين لدحض افترائهم و كشف المستور للعامة (البلهاء) الذين لا ناقة لهم ولا جمل في تسيير الأمور وسيرها.

نعاني منذ فترة من التشرذم الفكري في ظل تقوقع المفكرين و أصحاب الفطنة والحكمة والعلم احتراما لذاتهم أمام هذا المد الجدلي غير المسنود على أصول الحكمة و المسنود من لدن رؤوس أموال وعتاد همهم الأول والأخير (المادة) وهذا التشرذم أتاح لمتطفلي العلم أن يجدوا لهم وجهة الصدارة أمام العامة التي تحكم بالظاهر عادة, و تغيب عنها الحقيقة لعدم قدرتهم على الوصول إليها, و لسلامة نيتهم يساقون كالبهائم خلف كل داعٍ يستطيع استمالتهم بكلمات قريبة من مسامعهم وتحاكي مواجعهم مع (تتبيل) كل هذا ببعض الكلمات الخرقاء التي يصعب عليهم فهم مغزاها أو مفادها، فيشعرون بعظم المحاكين لهم فيتبعونهم كالأعمى الذي ينتظر أن يأخذ بيديه أحد وهو لا يرى إلى أين سيؤدي به هذا الساحب, ولن يكتشف بعماه إن كان من يسحبه أعمى مثله أم مبصر.

وهذا السقوط الفكري إن دل فيدل على تقاعس أصحاب الرسالة الفكرية وتركهم للساحة الفكرية، يلهو بها وفيها كل ضال ومضلل دون ردع, و لا شك أن في تاريخنا العربي بل والإنساني نماذج كثيرة تدل على مراحل مشابهة لهذه المرحلة التي يمر بها العقل العربي الآن.

وما كتاب (تهافت الفلاسفة) للغزالي والذي رد عليه ابن رشد بكتاب (تهافت التهافت) الذي كان يرد فيه الغزالي عن ما كانوا يتجادلون باسم الفلسفة ( فلاسفة روما) رد ابن رشد عليه باقتباسات منه كي يبعد الغزالي عن (الجدل) لأنه من أصحاب البصيرة والذكاء، فكان عليه أن يعرف أن من يجادلهم أهل جدل وليسوا أهل حكمة, وكل هذا ما كان إلا دليلاً على استمرار (الجدل) والفكر , ولكن مع تغير مستوى الفكر ذاته, و حوار المفكر (الحكيم) مع من يوازيه أو يساويه وحواره مع من يناقضه أو يعاديه, فقد فقدنا بوصلة التحكم العقلي في الوسط المفترض أن يكون مبنياً في الأساس على الفكر والبصيرة و سياسة الفكر وسيادته.

أما ما هو موجود على الساحة الآن فلا يمكن بحال من الأحوال إلا أن يندرج تحت مسمى (الجدل العقيم) لأنه لا يستند على حقيقة ولا يؤدي إليها.. بل هو من النوع الهدام الذي يروج لفكرة (الفوضى الخلاقة) وما أصعب هذه الفوضى خاصة ولو كانت في هذا الوسط الذي من المفترض أن يحمل أمانة توصيل العلم للعامة المغيبة والمنشغلة في أمور تدبير حياتها البسيطة, ولا يجدون سوى هذه الأقلام الجدلية كي يستمدوا علمهم ومعلوماتهم منها!!.

و أدعو كل كاتب أمين أن يدلو بدلوه و يخرج ليدحض هؤلاء بالعلم الحقيقي و بالرؤى الصحيحة، فالعامة فطرتهم سليمة و تستطيع أن تنقد وتفرق بين الصالح والطالح وتميز بينهم .. فقط تفاعلوا و أدوا أمانتكم يرحمكم الله.. والحديث لا ينتهي.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى