«الأيام» في وادي الفجرة همزة وصل الصبيحة الشرقية بالغربية .. حضور عريق في عمق الزمان والمكان ينهشه الظمأ وقسوة الصحراء والحرمان (4-1)

> «الأيام» علي الجبولي:

>
معاناة لجلب المياه
معاناة لجلب المياه
في أقصى الجنوب الغربي من النطاق الإداري لمديرية طور الباحة محافظة لحج ، وعلى بعد نحو25 كم من عاصمتها. يمتد وادي الفجرة بتضاريسه المتميزة على التخوم الإدارية الشرقية لمديرية المضاربة وعلى مقربة من التخوم الجنوبية الشرقية لمديرية المقاطرة.

مضيق عبور وحيد يصل شرق الصبيحة (طور الباحة) ببلدات الصبيحة الغربية قبالة الساحل الشرقي لخليج عدن والبحر الأحمر .

وادي فريد التضاريس يمتد من الشرق إلى الغرب , تلتقي فيه عدد من الأودية، فتبدو متعامدة عليه من شماله وشماله الشرقي و الغربي بصورة غريبة، حتى ليبدو أشبه بمصب مائي أو حفرة راشحة تصب عليها مخرجات عدة مدن، حتى يحط رحاله في خليج عدن. مكانة تاريخية تزخر بمعالم أثرية قديمة رغم تواضعها، تبدو كحصون عسكرية قديمة اندثرت وأخرى لم يبق منها سوى بقايا أطلال، آثار مبان وبئر عتيقة جدا، وحياة بؤس وبداوة مبعثرة في تداخل السهل والجبل والوادي والصحراء. بيد أن ظمأ أهالي وادي الفجرة وانعدام أبسط مقومات الحياة والخدمات وغرابة المعانة وإصرارهم على تحدي قسوة الحياة، كان الحافز الرئيس لارتحال «الأيام» إلى تلك المنطقة.

ما أن تقطع السيارة 15كم جنوب في طريق طور الباحة ـ عدن الإسفلتي حتى ينحرف مسارها غربا، لتلج طريق الخطابيةـ رأس العارة. بطول نحو 70 كم، وبتكلفة تزيد عن مليار ريال يمني، طريق إسفلتي جديدا يفترش غالبا رمال الصحراء، ونادرا ما يمتطي تلالا أو يتوغل شعابا ومنحدرات تشكل مع الصحراء تضاريس طبيعية لوادي الفجرة، لكن الطريق سيغادر نهائيا إلى الصحراء إذا ما قدر له أن يواصل السير.

بدأ شق الطريق في 2003م لربط شرق الصبيحة بغربها ، وبوتيرة سريعة كي ينجز في أشهر معدودات كما قيل يومذاك، ولكن تعطل، أعيق، أوقف، وهلم جرا... فتمخضت تلك الوتيرة حتى اليوم عن سفلتة نحو 9 كم فقط تنتهي عند مشارف الفجرة، وتسوية وردم كيلومترات أخرى ثم توقف العمل قبل أكثر من عام وغادر المقاول بلا رجعة.

حالما يودع المسافر هذا الطريق يلج الطريق القديم، طريق رملي شبه سالك يشق صدر وادي الفجرة الذي يتمدد من الشرق إلى الغرب بتشكيل انحداري فريد، تلتقي فيه عدد من الأودية المنحدرة من شرقه أودية معادن، معبق، السحر، والفرشة. ومن شماله وادي السنح المنحدر من جبال الحمر وأمخرف. وادي الزمامية المنحدر من جبال ارف، والزفيتة ،وشوار. ومن شماله الغربي وادي عمقه المنحدر من جبال، الثومة، واللصيبة ليشكل وادي الفجرة نقطة تجمع والتقاء لأشهر الوديان المنحدرة من جبال حيفان بتعز، ومن جبال القبيطة وشرار شرقا ومن قلعة المقاطرة والاحكوم شمالا ،وأخرى من جبال ارف وامخرف وامثومة غربا.

حينما أطللنا على الوادي تبدى منظره الانسيابي الفريد من الشرق إلى الغرب واد غير ذي ماء، يستلقي كمضيق في أقصى الحدود الإدارية الغربية لمديرية طور الباحة محافظة لحج، يصل شرق الصبيحة(طورالباحة) بغربها (المضاربة ورأس العارة)، يتمدد الوادي في تكوين تضاريسي طبيعي لا يخلو من غرابة وتميز، يشكلها تداخل السهل والجبل، وتحتل التلال والمرتفعات حيزا في نطاقه الجغرافي، فتجعله كمضيق عبور وحيد على امتداد الوادي ،قبل أن يواصل انسيابه في الجنوب الغربي نحو مناطق المضاربة حتى يحط رحاله في خليج عدن. تطل ضفته الجنوبية على صحراء رملية مفتوحة مترامية تمتد حتى شمال عدن، وغربا حتى ساحل البحر العربي. تحف بشماله جبال عالية، أشهرها أمخرف،اللصيبة، السنح، الحمر، عمقة. تتخللها شعاب ومرتفعات تجعل الوادي كطفل مدلل يستلقي فوق ساقي أمه.

فيتبدى الوادي كلوحة متداخلة تنسجم حينا وتتنافر آخر، تطغى على بيئته ملامح البؤس والمعاناة والتعب، لكنه لا يخلو من مشاهد تحمل في ثناياها قسمات جمال طبيعي.

أجساد يمضها الظمأ وجفاف الصحراء

في مدخل الوادي بئر قديمة يتحلق حول فوهتها نفر من النسوة والأطفال، الجميع مشغول بمصارعة رشا الدلو ( حبل الدلاء ) كي يملأ دباته البلاستيكية. نفر الجميع فور وصولنا ورؤية كاميرا التصوير.

حينما سألنا عن مستوى توفر الماء في البئر فوجئنا بأن الماء لا يصلح للشرب. يقول فارس ناصر :«هذه البئر حفرها المواطنون قبل حوالي 15 سنة بعمق 30مترا فقط . الماء مالح لا نستطيع شربه لكنه فقط لشرب الماشية وغسل الثياب». بئر ثانية مكشوفة في قلب الوادي، على بعد خمسة كيلومترات من الأولى، تناثر حولها الأوحال والأوساخ وروث الماشية،إنها بئر الفجرة المشهورة بقدمها بعمق 35 مترا ،لا احد يعرف متى حفرت،ولا من حفرها،وربما قبل مئات السنيين . حينما سألنا عمن حفرها ردوا «بير غساني» ولم افهم معنى (بير غساني). جموع غفيرة من النساء والأطفال يشكلون فسيفساء من العطاشى، يتسابقون على البراحة. ناقلات الماء من الحمير والإبل ترابط هي الأخرى في انتظار تعبئة حمولتها لتبدأ رحلة العودة نحو القرى المبعثرة، بعضها يقطع أكثر من عشر ساعات. نسوة، طفلات يحملن فوق رؤوسهن ويتأبطن على أكتافهم دبات ماء بلاستيكية مختلفة الأحجام والألوان ولا تعرف النظافة إليها طريقا.. أطفال في عمر الزهور على ظهور الإبل والحمير هجروا المدرسة لجلب الماء. لوحة تشبه لاجئين حول مخيم إغاثة ينتظرون صدقاته.

كل شيء بدائي وخارج نطاق العصر، حمير،جمال، بئر مكشوفة، مياه ملوثة، دلاء مهترئة، نسوة، طفلات، رجال، وأطفال. أجساد ذابلة يمضها التعب، جافة كجفاف البيئة يتزاحمون ليل نهار فوق خشبة ممددة على فوهة البئر وعلى مدار الساعة . الكل ينتظر دوره لبراحة مياه ملوثة ليملا تيوبه(دلوه)، مشهد يتكرر حتى تملا الدبات. دلاء بدائية خيطت بما يشبه الكيس من تيوبات التائرات ( بالونات إطارات ) اغلبها متهالك وربطت برشا من حبال النايلون، كثيرا ما تصرمت هي وحبالها لتتحلل مع الماء في قعر البئر.لا بديل ولا ملجأ لهم سوى هذه البئر. سالت أحدهم: لماذا لا تستبدل هذا الدلو بدلو نظيف؟ قال بلا مبالاة ( من أين نجيب؟!). اخبرونا أن الدلاء كثيرا ما تصرمت حبالها على مدى عشرات السنين ،واستقرت في قعر البئر حتى غدت أحد مكونات ماء الشرب.

في 85م زودت بئر الفجرة بمضخة ارتوازية نهبتها قوات الشرعية أثناء عبورها مضيق الفجرة لاحتلال مدينة طور الباحة. وفي 2002م زودتها منظمة اليونيسف بمضخة طاقة شمسية، لكنها لم تعمل سوى بضعة أشهر ثم تعطلت وانتزعت من فوق البئر،وعاد أهل الفجرة إلى دلائهم كصيرورتهم الأولى. يقول الشيخ علي الخليفي: «عند بدء نضوب المياه في حقول طور الباحة بدا العمل في مشروع مياه في الفجرة سمي المشروع الاستراتيجي لتغذية مديرية طور الباحة بكاملها ،اكتملت مرحلته الأولى بحفر 9 آبار ارتوازية المياه فيها متوفرة، وبني خزان سعته نحو مئة الف لتر فوق إحدى القمم، هذه المرحلة من المشروع أهدرت مبالغ ضخمة ثم ترك المشروع بحجج وذرائع واهية تزعم إن الماء غير صالح للشرب ،مع أن أبناء المنطقة يبرحون اليوم ماء الشرب من هذه الآبار أو من آبار أكثر تلوثا. انجاز هذا المشروع سيفيد في استخدامات المياه للإنسان والماشية لكن نتائج تحليل الماء غدت ذريعة لإضاعة مشروع استراتيجي كبير. وفي 2002م كان هناك مشروع بدعم من البنك الدولي لتحلية مياه الآبار الارتوازية التي حفرت من سابق لتغذية مناطق الفجرة، قرية القاضي، والخطابية، لكن المشروع تعثر حتى اليوم وقيل إن موازنته نقلت إلى مشروع مياه آخر».

انه مشهد بدائي مؤلم آخر من مشاهد الظمأ التي أصبح حبلها يلتف حول أعناق اغلب مناطق الصبيحة ويضيق الخناق على رقاب أبنائها ويضعهم أمام خيارين أحلاهما مر، إما الهلاك ظمأ وإما النزوح عن ديارهم. يقول عبدالله علوان «الظمأ يهددنا بالموت أو الرحيل من المنطقة. في الوادي بئر قديم نشرب منه مع أن الماء ملوث بالأوساخ ولكن نشربه، وأخرى مالحة جدا لشرب المواشي فقط.هناك في منطقة (امجبلين ) في الخبت يسكن بعض الرعاة ومعاناة أهلها أقسى، فهم يأتون بالماء من بئر الفجرة على بعد أكثر من 10كم فوق الحمير والإبل بمسير أكثر من عشر ساعات ذهابا وإيابا في رمال الصحراء».

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى